اقتصاد مجاني

الاقتصاد المجاني (بالإنجليزية: Gift Economy)‏  أو ثقافة المنح هي وسيلة للتبادل لا يتم فيها تداول السلع الثمينة أو بيعها، بل منحها دون اتفاق صريح للحصول على مكافآت فورية أو مستقبلية.[1] تحكم القواعد والعادات الاجتماعية في ثقافة المنح، إذ لا تعطى المنح بالتبادل الصريح للسلع أو الخدمات مقابل المال، أو في بعض السلع أو الخدمات الأخرى.[2] يتناقض ذلك مع اقتصاد المقايضة أو اقتصاد السوق، إذ يتم تبادل السلع والخدمات بشكل صريح للحصول على القيمة المستلمة.

جزء من سلسلة مقالات
أنظمة اقتصادية
  • بوابة الاقتصاد والأعمال

تشكل طبيعة الاقتصاد المجاني موضوع نقاش تأسيسي في الأنثروبولوجيا. بدأت الأبحاث الأنثروبولوجية بوصف برونيسوا مالينوفسكي لنظام تبادل كولا[3] في جزر تروبرياند خلال الحرب العالمية الأولى.[4] بدا أن تجارة كولا تشبه المنح؛ لأن سكان الجزر كانوا يسافرون لمسافات طويلة عبر البحار الخطرة لإعطاء ما كان يعتبر أشياء ثمينة دون أي ضمان للعودة. ناظر مالينوفسكي مع عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس الذي اعترف على الفور بتعقيد «تبادل المنح» وقدم سلسلة من المصطلحات الفنية مثل المعاملة بالمثل، والممتلكات غير القابلة للتصرف، والعرض التقديمي للتمييز بين أشكال التبادل المختلفة.[5][6]

وفقًا لعالمي الأنثروبولوجيا، موريس بلوخ وجوناثان باري، فإن العلاقة غير المستقرة بين السوق والتبادل غير السوقي هي التي تجذب الانتباه.[7] ويقال إن الاقتصاد المجاني، وجد لبناء المجتمعات، إلى جانب السوق الذي يعتبر قاسٍ على هذه العلاقات.[8]

يتميز تبادل المنح عن أشكال التبادل الأخرى بعدد من المبادئ، مثل شكل حقوق الملكية التي تحكم المواد المتبادلة، وما إذا كانت المنح تشكل «مجال تبادل» متميز يمكن وصفه بأنه «نظام اقتصادي»، وطبيعة العلاقة الاجتماعية التي يخلقها تبادل المنح. تختلف أيديولوجيات المنح في المجتمعات ذات الطابع التجاري الكبير عن «خدمات» المجتمعات  النموذجية ذات الطابع غير السوقي. يجب التمييز بين اقتصاد المنح وعدة ظواهر ذات صلة، مثل أنظمة الملكية المشتركة وتبادل العمالة غير السلعية.

مبادئ تبادل المنح

وفقًا لعالم الأنثروبولوجيا جوناثان باري، فإن مناقشة طبيعة المنح، والمجال المنفصل لتبادل المنح التي من شأنها أن تشكل نظامًا اقتصاديًا، قد فشلت بسبب الاستخدام العِرقي للمفهوم الغربي الحديث القائم على مجتمع السوق للمنح المطبقة كما لو أنها عالمية عبر الثقافات والتاريخ. ومع ذلك، يدعي جوناثان أن علماء الأنثروبولوجيا، من خلال تحليل مجموعة متنوعة من الأشكال الثقافية والتاريخية للتبادل، قد أثبتوا أنه لا توجد ممارسة عالمية. وقد أوضح تلخيصه الكلاسيكي لنقاش تبادل المنح أن أيديولوجيات «المنحة النقية» من المرجح أن تنشأ في مجتمعات متمايزة للغاية مع تقسيم متقدم للعمل ونشوء قطاع تجاري كبير «وتحتاج للتمييز عن القوانين غير السوقية».[9] ووفقًا لما ذكره وين، فإن الحديث عن «اقتصاد المنح» في مجتمع غير سوقي يعني تجاهل السمات المميزة لعلاقات التبادل الخاصة بهم، كما أوضحه النقاش الكلاسيكي المبكر بين برونيسلاف مالينوفسكي ومارسيل موس. يكون «تبادل المنح» غالبًا منخرطًا في المؤسسات السياسية أو العشائرية أو الدينية، لذا لا يشكل نظامًا «اقتصاديًا» بحد ذاته.

الملكية وإمكانية نقلها

تقديم المنح هو شكل من أشكال نقل حقوق الملكية بشأن أشياء معينة. تختلف طبيعة حقوق الملكية من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، لذا فهي غير عالمية. إذ تتغير طبيعة تقديم المنح حسب نوع نظام الملكية المعمول به.

الملكية ليست مجرد شيء بل علاقة بين الناس حول الأشياء. وفقًا لكريس فإن الملكيةَ علاقةٌ اجتماعية تحكم سلوك الأشخاص فيما يتعلق باستخدام الأشياء والتصرف بها. يحلل علماء الأنثروبولوجيا هذه العلاقات عبر «مجموعة من الحقوق» للجهات الفاعلة (الفردية أو المؤسسية) بشأن الأشياء. مثال على ذلك النقاشات الحالية حول حقوق الملكية الفكرية. يقدم كل من هان وسترانغيلوف مثالًا عن كتاب مُشترى (شيء يمتلكه)، والذي يحتفظ فيه المؤلف «بحقوق الطبع والنشر». على الرغم من أن الكتاب سلعة تباع وتشترى، لا «تنقل ملكيته» تمامًا، إذ يكون صاحب الكتاب مقيدًا بما يمكنه فعله بالكتاب من خلال حقوق المبدع.[10][11][12][13] جادل واينر بأن القدرة على العطاء مع الاحتفاظ بالحق في المنحة أو السلعة هي سمة أساسية لثقافة المنح التي وصفها مالينوفسكي وماوس، ويشرح مثلًا سبب عودة بعض المنح مثل أشياء كولا الثمينة إلى مالكيها الأصليين بعد رحلة عجيبة حول جزر تروبرياند. ما تزال المنح المقدمة في نظام تبادل كولا، في بعض النواحي، ملكًا للمانح. ما تزال مجرد ثقافة، وليست عالمية. لذا تتغير طبيعة تقديم المنح حسب نوع نظام الملكية المعمول به.

في المثال المستخدم أعلاه، تعَد «حقوق الطبع والنشر» أحد الحقوق المجمعة التي تنظم استخدام الكتاب والتصرف به. يعتبر تقديم المنح في العديد من المجتمعات أمرًا معقدًا؛ لأن «الملكية الخاصة» التي يملكها الفرد قد تكون محدودة جدًا. قد يحتفظ أعضاء في مجموعة شركات (مثل النسب) بالموارد الإنتاجية، مثل الأرض، ولكن بعض أعضاء هذه المجموعة فقط قد يكون لهم «حقوق استخدام». عندما يحمل الكثير من الأشخاص حقوقًا على نفس الأشياء، يكون لمنحهم آثارًا مختلفة تمامًا عن منح الملكية الخاصة، قد تُنقل بعض الحقوق في هذا الشيء فقط، ما يترك هذا الشيء مرتبطًا بمالكي الشركات. تشير أنيت وينر -عالمة الأنثروبولوجيا- إلى هذه الأنواع من الأشياء بأنها «ممتلكات غير قابلة للتصرف» وإلى العملية باسم «المحافظة أثناء المنح».

المنحة مقابل الخدمات

أصبحت دراسة مالينوفسكي لتبادل كولا موضع نقاش مع عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، مارسيل موس، مؤلف كتاب «المنحة» (إيسي سور لو دون، 1925) من وجهة نظر باري، ركز مالينوفسكي على تبادل السلع بين الأفراد، ودوافعهم غير الإيثارية لإعطاء المنح: كانوا يتوقعون مقابلًا بقيمة مساوية أو أكبر. صرح مالينوفسكي أن المعاملة بالمثل هي جزء ضمني من المنح، وادعى أنه لا يوجد شيء مثل «المنحة المجانية» المقدمة دون توقع شيء بالمقابل.[14]

بالمقابل، أكد موس على أن المنح لم تكن بين الأفراد، بل بين ممثلي المجموعات الأكبر. وقال إن هذه المنح كانت «خدمات كلية». الخدمات هي خدمة مقدمة بدافع الإحساس بالالتزام، مثل «خدمة المجتمع». لم تكن السلع بسيطة قابلة للبيع أو الشراء، بل كانت تمامًا كجواهر التاج، تجسّد انتماء وتاريخ سلالة من المؤسسات وتاريخها، كما يختزل التاج تاريخ سلالة الملوك. بالنظر إلى المخاطر، سأل موس: «لماذا قد يفتح لهم أحد المجال؟» كانت إجابته مفهومًا غامضًا، «روح المنحة». يعتقد باري أن جزءًا كبير من الارتباك (والنقاش الناتج عنه) يرجع إلى ترجمة سيئة. يبدو أن موس كان يجادل بأن المنحة الراجعة تعطى للحفاظ على العلاقة بين مقدمي الرعاية على قيد الحياة، والفشل في إرجاع المنحة الذي ينهي العلاقة والوعد بأي منح في المستقبل.[15]

اتفق كلا مالينوفسكي وموس على أنه في المجتمعات غير السوقية، إذ لا يوجد نظام مؤسسي واضح للتبادل الاقتصادي، يخدم تبادل المنح والخدمات الوظائف الاقتصادية والعشائرية والدينية والسياسية التي لا يمكن تمييزها بوضوح عن بعضها البعض، والتي تؤثر بشكل متبادل على طبيعة الممارسة.

الممتلكات غير القابلة للتصرف

تطور مفهوم موس حول «الخدمات الكلية» من قبل أنيت وينر، التي عاودت زيارة موقع حقل مالينوفسكي في جزر تروبرياند. كان نقدها من شقين: أولًا، مجتمع جزيرة تروبرياند أخوالي متعلق بقرابة الأم، والمرأة تملك قيمة كبيرة من القوة الاقتصادية والسياسية. تم تجاهل التبادلات من قبل مالينوفسكي. ثانيًا، طورت حجة ماوس حول المعاملة بالمثل و«روح الهدية من ناحية «الممتلكات غير القابلة للتصرف: المفارقة في المحافظة أثناء المنح».[16]

مراجع

  1. Cheal, David J (1988). "1". The Gift Economy. New York: Routledge. صفحات 1–19. ISBN 0415006414. اطلع عليه بتاريخ 18 يونيو 2009. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  2. R. Kranton: Reciprocal exchange: a self-sustaining system, American Economic Review, V. 86 (1996), Issue 4 (September), p. 830-51
  3. Malinowski, Bronislaw (1922). Argonauts of the Western Pacific. London. مؤرشف من الأصل في 17 يناير 2020. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  4. Keesing, Roger; Strathern, Andrew (1988). Cultural Anthropology. A Contemporary Perspective. Fort Worth: Harcourt Brace and Company. صفحة 165. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  5. Mauss, Marcel (1970). The Gift: Forms and Functions of Exchange in Archaic Societies. London: Cohen & West. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  6. Weiner, Annette (1992). Inalienable Possessions: The Paradox of Keeping-while-Giving. Berkeley: University of California Press. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  7. Bollier, David. "The Stubborn Vitality of the Gift Economy." Silent Theft: The Private Plunder of Our Common Wealth. First Printing ed. New York: Routledge, 2002. 38-39. Print.
  8. J. Parry, M. Bloch (1989). "Introduction" in Money and the Morality of Exchange. Cambridge: Cambridge University Press. صفحات 8–12. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  9. Parry, Jonathan (1986). "The Gift, the Indian Gift and the 'Indian Gift'". Man. 21 (3): 453–473. doi:10.2307/2803096. JSTOR 2803096. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  10. Coleman, Gabriella (2004). "The Political Agnosticism of Free and Open Source Software and the Inadvertent Politics of Contrast" (PDF). Anthropological Quarterly. 77 (3): 507–19. doi:10.1353/anq.2004.0035. hdl:10524/1583. مؤرشف من الأصل (PDF) في 17 يناير 2020. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  11. Levitt, Leon (1987). "On property, Intellectual Property, the Culture of Property, and Software Pirating". Anthropology of Work Review. 8 (1): 7–9. doi:10.1525/awr.1987.8.1.7. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  12. Friedman, Jonathan (1999). "The Cultural Life of Intellectual Properties: Authorship, Appropriation, and the Law". American Ethnologist. 26 (4): 1001–2. doi:10.1525/ae.1999.26.4.1001. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  13. Aragon, Lorraine; James Leach (2008). "Arts and Owners: Intellectual property law and the politics of scale in Indonesian Arts". American Ethnologist. 35 (4): 607–31. doi:10.1111/j.1548-1425.2008.00101.x. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  14. Parry, Jonathan (1986). "The Gift, the Indian Gift and the 'Indian Gift'". Man. 21 (3): 466–69. doi:10.2307/2803096. JSTOR 2803096. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  15. Schrauwers, Albert (2004). "H(h)ouses, E(e)states and class: On the importance of capitals in central Sulawesi". Bijdragen tot de Taal-, Land- en Volkenkunde. 160 (1): 72–94. doi:10.1163/22134379-90003735. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  16. Gregory, Chris (1982). Gifts and Commodities. London: Academic Press. صفحات 189–194. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
    • بوابة برمجيات حرة
    • بوابة الاقتصاد
    • بوابة لاسلطوية
    This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.