طاعون جستنيان

كان طاعون جستنيان أو وباء جستنيان (541-542 م، وتكرر حتى 750) وباء أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله،[1][2] حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون. يعتقد بعض المؤرخين أن طاعون جستنيان كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، وأنه أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25-50 مليون شخص خلال قرنين، وهو ما يعادل 13-26% من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة.[3][4] تمت مقارنة التأثير الاجتماعي والثقافي للطاعون بتأثير الموت الأسود الذي دمر أوراسيا في القرن الرابع عشر،[5] لكن بحثًا نشر في عام 2019 جادل بأن عدد وفيات الطاعون والآثار الاجتماعية مبالغ فيها.[6][7]

خريطة للإمبراطورية البيزنطية في 550 (بعد طاعون جستنيان بعقد) مع غزوات جستنيان باللون الأخضر
القديس سيباستيان يتوسل ليسوع لإنقاذ حياة حفار قبور مصاب بالطاعون أثناء وباء جستنيان. (1497–1499م)

في عام 2013، أكد الباحثون تكهنات سابقة بأن سبب طاعون جستنيان كان اليرسينيا الطاعونية، وهي نفس البكتيريا المسؤولة عن الموت الأسود (1347-1351).[8][9] كان الأخير أقصر بكثير، لكنه مع ذلك قتل ما يقدر بنحو ثلث إلى نصف الأوروبيين. تم العثور على سلالات يرسينيا طاعونية قديمة وحديثة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسلف سلالة طاعون جستنيان في جبال تيان شان، وهي سلاسل جبلية على حدود قيرغيزستان وكازاخستان والصين، مما يشير إلى أن طاعون جستنيان قد نشأ في تلك المنطقة أو بالقرب منها.[10][11]

تكرر ظهور الطاعون بشكل دوري حتى القرن الثامن الميلادي.[2] كان لموجات المرض تأثير كبير على المسار اللاحق للتاريخ الأوروبي. أطلق المؤرخون المعاصرون على هذا الوباء اسم جستنيان الأول، الذي كان إمبراطورًا في وقت تفشي المرض لأول مرة. أصيب جستنيان نفسه بالمرض، لكنه نجا.

كانت إحدى خصائص طاعون جستنيان هي نخر اليد. (الصورة من ضحية للطاعون سنة 1975)

الأصول والانتشار

دراسات علم الوراثة

تشير الدراسات الوراثية للحمض النووي الحديث والقديم ليرسينيا الطاعونية إلى أن أصل الطاعون كان في آسيا الوسطى. تم العثور على أكثر السلالات الموجودة على المستوى القاعدي أو الجذري من اليرسينيا الطاعونية كنوع في تشينغهاي، الصين.[12] بعد أن تم عزل عينات من الحمض النووي لليرسينيا من الهياكل العظمية لضحايا طاعون جستنيان في ألمانيا،[13] وجد أن السلالات الحديثة الموجودة حاليًا في سلسلة جبال تيان شان هي الأكثر قاعدية مقارنة بسلالة طاعون جستنيان.[10] بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على هيكل عظمي في تيان شان يرجع تاريخه إلى حوالي عام 180 بعد الميلاد وتم تحديده على أنه "هون مبكر" يحتوي على حمض نووي ليرسينيا الطاعونية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعينات طاعون جستنيان الألمانية.[11] وهذا يشير إلى أن توسع الشعوب المتنقلة التي انتقلت عبر السهوب الأوراسية، مثل شيونغنو وفي وقت لاحق الهون، كان له دور في نشر الطاعون إلى غرب أوراسيا من أصله في آسيا الوسطى.

تم العثور على عينات من الحمض النووي لليرسينيا الطاعونية في هياكل عظمية يعود تاريخها إلى 3000-800 قبل الميلاد، في غرب وشرق أوراسيا.[14] لا يبدو أن سلالة يرسينيا الطاعونية المسؤولة عن الموت الأسود -والذي كان وباء مدمرا من الطاعون الدملي- تنحدر بصورة مباشرة من سلالة طاعون جستنيان. ومع ذلك، قد يكون انتشار طاعون جستنيان قد تسبب في تشعب تطوري أدى إلى ظهور سلالة 0ANT.1 الموجودة حاليًا.[15][16]

المنظور التاريخي

بازيليكا مكتملة جزئيا في فيليبي؛ ويعتقد أن طاعون جستنيان قد أوقف بناءها.

يعتبر طاعون جستنيان عمومًا أول وباء يرسينيا طاعونية يسجل تاريخياً.[17][18] يستند هذا الاستنتاج إلى الأوصاف التاريخية للأعراض السريرية للمرض[19] والكشف عن الحمض النووي لـ Y. pestis في البقايا البشرية في مواقع المقابر القديمة التي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة.[20][21]

وفقًا لمصادر معاصرة لتلك الفترة، كان يعتقد أن التفشي في القسطنطينية قد نشأ بسبب الفئران المصابة القادمة في سفن الحبوب من مصر إلى المدينة.[22] حيث لإطعام مواطنيها، استوردت المدينة والمجتمعات المجاورة كميات كبيرة من الحبوب، معظمها من مصر. اعتمدت الفئران (والبراغيث) في مصر على التغذية من مخازن الحبوب الكبيرة التي كانت تحتفظ بها الحكومة.

أبلغ المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس لأول مرة عن الوباء عام 541 من ميناء بيلوسيوم بالقرب من السويس في مصر.[22] كان هناك تقريران آخران عن ويلات الطاعون كتبهما مؤرخ الكنيسة السريانية يوحنا الأفسسي[23] وإيفاغريوس سكولاستيكوس، الذي كان طفلاً في أنطاكية في ذلك الوقت وأصبح لاحقًا مؤرخًا للكنيسة. أصيب إيفاغريوس بالتهاب الغدة الليمفاوية المرتبط بالمرض لكنه نجا. بسبب تكرر ظهور المرض لأربع مرات في حياته، فقد زوجته وابنته وطفلها وأطفال آخرين ومعظم خدمه.[24]

سجل بروكوبيوس،[25] أن الطاعون في ذروته كان يقتل 10000 شخص في القسطنطينية يوميًا، ولكن دقة الرقم محل شك، وربما لن يعرف الرقم الحقيقي أبدًا. وأشار إلى أنه بسبب عدم وجود مكان لدفن الموتى، تُركت الجثث مكدسة في العراء. غالبًا ما كانت تُترك طقوس الجنازة دون حضور، وكانت رائحة المدينة بأكملها مثل رائحة الموتى.[26] في كتابه التاريخ السري، يسجل الدمار في الريف ويتحدث عن الرد القاسي من قبل جستنيان:

عندما اجتاح الوباء العالم المعروف كله ولا سيما الإمبراطورية الرومانية، قضى على معظم المجتمع الزراعي تاركًا دربًا من الخراب في أعقابه، لم يظهر جستنيان أي رحمة تجاه أصحاب الأملاك المدمرة. حتى في ذلك الحين، لم يمتنع عن المطالبة بالضريبة السنوية، ليس فقط المبلغ الذي قام بتقييمه لكل فرد، ولكن أيضًا المبلغ الذي كان جيرانه المتوفين مسؤولين عنه.[27]

كنتيجة للطاعون في الريف، لم يستطع المزارعون الاعتناء بالمحاصيل وارتفع سعر الحبوب في القسطنطينية. أنفق جستنيان مبالغ ضخمة من المال للحروب ضد الوندال في منطقة قرطاج ومملكة القوط الشرقيين في إيطاليا. كان قد خصص أموالًا كبيرة لبناء كنائس عظيمة، مثل آيا صوفيا. عندما حاولت الإمبراطورية تمويل المشاريع، تسبب الطاعون في انخفاض عائدات الضرائب من خلال العدد الهائل من الوفيات وتعطيل الزراعة والتجارة. سارع جستنيان بسن تشريع جديد للتعامل بشكل أكثر كفاءة مع وفرة دعاوى الميراث التي يتم رفعها نتيجة وفاة الضحايا دون وصية.[28]

كانت آثار الطاعون على المدى الطويل على التاريخ الأوروبي والمسيحي هائلة. مع انتشار المرض إلى المدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط، تمت إعادة تنشيط القوط المتعثرين ودخل صراعهم مع القسطنطينية مرحلة جديدة. أضعف الطاعون الإمبراطورية البيزنطية في لحظة حرجة، عندما استعادت جيوش جستنيان تقريبا كل إيطاليا وساحل غرب البحر الأبيض المتوسط. كان الغزو المتطور سيعيد توحيد قلب الإمبراطورية الرومانية الغربية مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية. على الرغم من أن الغزو حدث في 554، إلا أن التوحيد لم يدم طويلا. في عام 568، غزا اللومبارديون شمال إيطاليا، وهزموا الجيش البيزنطي الصغير الذي كان قد ترك هناك وأقاموا مملكة لومبارديا. ربما يكون الطاعون قد ساهم أيضًا في نجاح العرب بعد بضعة أجيال في الحروب العربية البيزنطية.[22][29]

انظر أيضا

المراجع

  1. Floor, Willem (2018). Studies in the History of Medicine in Iran. Mazda Publishers. صفحة 3. ISBN 978-1933823942. The Justinian plague (bubonic plague) also attacked the Sasanian lands. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  2. The Sixth-Century Plague نسخة محفوظة 20 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.
  3. Rosen, William (2007). Justinian's Flea: Plague, Empire, and the Birth of Europe. Viking Adult. صفحة 3. ISBN 978-0-670-03855-8. مؤرشف من الأصل في 10 سبتمبر 2019. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  4. "The Plague of Justinian". History Magazine. 11 (1): 9–12. 2009. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  5. Christakos, George; Olea, Ricardo A.; Serre, Marc L.; Yu, Hwa-Lung; Wang, Lin-Lin (2005). Interdisciplinary Public Health Reasoning and Epidemic Modelling: The Case of Black Death. Springer. صفحات 110–114. ISBN 3-540-25794-2. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  6. Mordechai, Lee; Eisenberg, Merle; Newfield, Timothy P.; Izdebski, Adam; Kay, Janet E.; Poinar, Hendrik (27 نوفمبر 2019). "The Justinianic Plague: An inconsequential pandemic?". Proceedings of the National Academy of Sciences (باللغة الإنجليزية). doi:10.1073/pnas.1903797116. ISSN 0027-8424. PMID 31792176. مؤرشف من الأصل في 16 ديسمبر 2019. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  7. Mordechai, Lee; Eisenberg, Merle (1 أغسطس 2019). "Rejecting Catastrophe: The Case of the Justinianic Plague". Past & Present (باللغة الإنجليزية). 244 (1): 3–50. doi:10.1093/pastj/gtz009. ISSN 0031-2746. مؤرشف من الأصل في 08 ديسمبر 2019. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  8. "Modern lab reaches across the ages to resolve plague DNA debate". phys.org. May 20, 2013. مؤرشف من الأصل في 27 يوليو 2019. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  9. Maria Cheng (January 28, 2014). "Plague DNA found in ancient teeth shows medieval Black Death, 1,500-year pandemic caused by same disease". National Post. مؤرشف من الأصل في 23 مارس 2015. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  10. Eroshenko, Galina A.; et al. (26 أكتوبر 2017). "Yersinia pestis strains of ancient phylogenetic branch 0.ANT are widely spread in the high-mountain plague foci of Kyrgyzstan". PLOS ONE. 12 (10): e0187230. Bibcode:2017PLoSO..1287230E. doi:10.1371/journal.pone.0187230. PMID 29073248. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  11. Damgaard, Peter de B.; et al. (9 مايو 2018). "137 ancient human genomes from across the Eurasian steppes". Nature. 557 (7705): 369–374. Bibcode:2018Natur.557..369D. doi:10.1038/s41586-018-0094-2. PMID 29743675. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  12. Morelli, Giovanna; et al. (31 أكتوبر 2010). "Yersinia pestis genome sequencing identifies patterns of global phylogenetic diversity". Nature Genetics. 42 (12): 1140–1143. doi:10.1038/ng.705. PMID 21037571. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  13. Wagner, David M.; et al. (أبريل 2014). "Yersinia pestis and the Plague of Justinian 541–543 AD: a genomic analysis". The Lancet. 14 (4): 319–326. doi:10.1016/S1473-3099(13)70323-2. PMID 24480148. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  14. Rasmussen, Simon; et al. (22 أكتوبر 2015). "Early Divergent Strains of Yersinia pestis in Eurasia 5,000 Years Ago". Cell. 163 (3): 571–582. doi:10.1016/j.cell.2015.10.009. PMID 26496604. مؤرشف من الأصل في 18 نوفمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 28 سبتمبر 2018. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  15. McGrath, Matt (12 October 2011). "Black Death Genetic Code 'Built'". الإذاعات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية. مؤرشف من الأصل في 01 يناير 2020. اطلع عليه بتاريخ 12 أكتوبر 2011. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  16. Bos, Kirsten; Schuenemann, Verena J.; Golding, G. Brian; Burbano, Hernán A.; Waglechner, Nicholas; Coombes, Brian K.; McPhee, Joseph B.; Dewitte, Sharon N.; Meyer, Matthias (12 أكتوبر 2011). "A draft genome of Yersinia pestis from victims of the Black Death". Nature. 478 (7370): 506–510. Bibcode:2011Natur.478..506B. doi:10.1038/nature10549. PMID 21993626. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  17. Russell, Josiah C. (1968), "That earlier plague", Demography, 5, صفحات 174–184, doi:10.1007/bf03208570 الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة); الوسيط |separator= تم تجاهله (مساعدة)CS1 maint: ref=harv (link)
  18. "Justinian's Plague (541-542 CE)". مؤرشف من الأصل في 25 يناير 2020. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  19. Procopius, History of the Wars, 7 Vols., trans. H. B. Dewing, Loeb Library of the Greek and Roman Classics, (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1914), Vol. I, pp. 451–473.
  20. Wiechmann I, Grupe G. Detection of Yersinia pestis DNA in two early medieval skeletal finds from Aschheim (Upper Bavaria, 6th century A.D.)" Am J Phys Anthropol 2005 Jan;126(1) 48–55
  21. Harbeck, Michaela; Seifert, Lisa; Hänsch, Stephanie; Wagner, David M.; Birdsell, Dawn; Parise, Katy L.; Wiechmann, Ingrid; Grupe, Gisela; Thomas, Astrid (2013). Besansky, Nora J (المحرر). "Yersinia pestis DNA from Skeletal Remains from the 6th Century AD Reveals Insights into Justinianic Plague". PLoS Pathogens. 9 (5): e1003349. doi:10.1371/journal.ppat.1003349. PMID 23658525. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  22. Nicholas Wade (October 31, 2010). "Europe's Plagues Came From China, Study Finds". نيويورك تايمز. مؤرشف من الأصل في 29 يناير 2020. اطلع عليه بتاريخ 01 نوفمبر 2010. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  23. John of Ephesus, Ecclesiastical History, part 2. Translation of relevant portions here. نسخة محفوظة 25 يناير 2020 على موقع واي باك مشين.
  24. Evagrius, Historia Ecclesiae, IV.29.
  25. Procopius, Persian War II.22–23.
  26. Procopius: The Plague, 542
  27. Procopius, Anekdota, 23.20f.
  28. Justinian, Edict IX.3; J. Moorhead 1994; Averil Cameron, The Mediterranean World in Late Antiquity, AD 395–600, 1993:111.
  29. Rosen, William. Justinian's Flea: Plague, Empire, and the Birth of Europe. Viking Adult, 2007. Pg. 321–322. (ردمك 978-0-670-03855-8). نسخة محفوظة 10 سبتمبر 2019 على موقع واي باك مشين.
    • بوابة مصر
    • بوابة طب
    This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.