قصر غمدان
قصر غمدان في اليمن ( بين الخبر والاثر ):
بداية علينا الإشارة ان اعتمادنا في هذه المقالة بشكل اساسي على دراسة علمية خاصة بالقصر في جنوب شبه الجزيرة العربية، قام بها الباحث أنور الحاير، عام 2014م، وحصل من خلالها على درجة الماجستير في فن العمارة القديمة، تناول من خلالها القصور القديمة التي جاء ذكرها في المصادر الاخبارية ومقارنتها مع ما جاء في النقوش المسندية ونتائج التنقيبات الاثرية بالإضافة إلى رسوم صخرية تعود إلى ما قبل الإسلام، واستطاع من خلال الدراسة اعتمادا على المنهج المقارن تحديد أكثر من 300 قصر ما بين ملكي واخرى لكبار الشخصيات وغير ذلك، كما تناول طابع العمارة الهندسي ومواد البناء وتقنياته، إضافة إلى التزيين والزخرفة ولعل قصر غمدان يندرج ضمن القصور الملكية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، والغريب في الامر ان الدراسة توصلت إلى نتائج مبهرة عن القصر قديما، وكان قصر غمدان معروف والذي مع مرور الوقت والزمن اصبح الاسم ( صنعاء ) بديلا عن غمدان، الذي كان مجموعة مباني متفرقة وتحصينية، والدراسة ايضا تتضمن شروحات وخرائط جغرافية ورسومات تصويرية وتصميمات معمارية وهندسية، ولذلك كان اعتمادا في تناول قصر غمدان على تلك الدراسة العلمية بداية بالقصر في المصادر الاخبارية ومقارنة ذلك مع المصادر الاثرية([1]).
اولاً: قصر غمدان في المصادر الاخبارية:
قصر غمدان، كان يقع هذا القصر في مدينة صنعاء باليمن، ويُعد سيف بن ذي يزن من أشهر وآخر الملوك الذين سكنوه، وكان يعتبر من عجائب الهندسة المعمارية ومن أقدم القصور الضخمة في العالم. كانت عدد طوابق القصر عشرين طابقا بين الطابق والآخر عشرة أذرع وبني بالبوفير والجرانيت والمرمر، واستخدم القصر لإقامة الملك وإدارة البلاد حيث كان مجلس الملك في الطابق الأعلى.
يتميز الهمداني دون غيره بوصف طبيعة القصر وعمارته في اليمن القديم بداية في قصر غمدان حيث قال :" أول قصور اليمن وأعجبها ذكرا وأبعدها صيتا قصر غمدان وهو قصر أزال وهو في صنعاء، وقد سماها بهذا الاسم من كان في أخر الجاهلية". مضيفا "والذي أسس غمدان وابتدأ ببنائه واحتفر بئره التي هي اليوم سقاية لمسجد صنعاء سام بن نوح عليه السلام، وضع مقرانة، وهو الخيط الذي يقدر به البناء ويبني عليه بنائه إذا مده بموضع الأساس، في ناحية فج عضدان غربي حقل صنعاء، فبنى الضبر، فإذا بطائر اختطف المقرانة وطار بها إلى جبوب-مفردها جبوبه في لهجة خبان، وهي التل الجبلي المنبسط إلا انه مرتفع عن ما حوله من أودية أو غير ذلك- النعيم من سفح نقم، ومنها طار بها (مرة أخرى ) إلى حرة غمدان، فعلم سام أنه قد أمر بالبناء هنالك فأس غمدان واحتفر بئره وتسمى كرامه.
في الخبر السابق معلومات قيمة عن بناء قصر غمدان وكيف تم تأسيسه بداية في اختيار الموقع الملائم لبناء القصر، وكيف كان للطائر دورا في اختيار الموقع المناسب من خلال أخذه واختطافه المقرانة (خيط البناء) من موقع إلى أخر بشكل أسطوري، وكان اختيار الموقع الأول في فج عضدان والمعروف حاليا (عطان) الواقع جنوب غرب صنعاء، وهو عبارة عن مضيق جبلي ربما تبين أنه غير ملائم لبناء قصر مثل غمدان إضافة لأرضيته الهشة والبركانية التي تتميز بها منطقة عطان خاصة جنوب غرب حصن عطان حالياً، وتلك الأسطورة المرتبطة بالطائر وعضدان(عطان) في حقيقة الأمر تؤكد على دراسة جغرافية وجيولوجية أدت إلى البحث عن مكان أخر يكون مؤهلا ومناسب لبناء قصر، لهذا كان الاختيار الثاني في جبل نقم وتحديدا جبوب النعيم شمال شرق (عطان )،وربما كان ذلك الموقع غير مؤهل للبناء ايضا باعتباره جبلي وغير مؤهل لعمارة قصر بكامل ملحقاته، كما أن انتقال الطائر بالمقرانة للموقع الثالث في حرة غمدان (صنعاء القديمة) ربما لأنه المكان المناسب للبناء، والحرة معروفة بأرضها القوية وسطحها المستوي، وكان اختيار هذا الموقع باعتباره مرتفع على قاع صنعاء الفسيح ويطل عليه وأنه قابل للتوسعة المعمارية وروافد المياه فيه متوفرة، ويتميز بخاصية تحصينيه طبيعية، وما الطائر الأسطوري إلا مهندس حقيقي في اليمن القديم كان على معرفة كاملة بفن الهندسة المعمارية.
ثم ينقل لنا الهمداني ما رفعه محمد بن خالد من حديث إلى وهب بن منبه فقال:" لما بنى غمدان صاحب غمدان وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر بها الطائر فيعرف به الغراب من الحدأة من تحت الرخامة".
كما يضيف ألهمداني خبر أخر عن بناء قصر غمدان سمعه من بعض أهل العلم قائلا:" أن غمدان كان على سبعة سقوف بين كل سقفين أربعين ذراعا، وهذا لا يمكن لان أربعين ذراعا بين كل سقفين كثير، واثبت ما ذكرناه أنه عشرون سقفا كل سقف على عشرة اذرع، ذلك مائتا ذراع، ولن يتعذر لقدرتهم على كل معجز من البناء، وكانت غرفة الرأس العليا مجلس الملك اثنتى عشر ذراعا -(5,40 متر تقريبا باعتبار الذراع 45 سم تقريبا) -عليها حجر من رخام وكان في زواياه الأربع أربعة اسود من نحاس اصفر خارجة صدورها فإذا هبت الريح في أجوافها زأرت كما يزأر الأسد
.
"والذي بنى غمدان الي شرح يحضب (جاء في النقوش المسندية Ja 577,-Cih 429) ،فلما نظر ظله بالغداة قد بلغ سفح عيبان كف البناء، وقال ابن شرية : كان للغرفة أربعة أبواب قبالة الصبا والدبور والشمال والجنوب، وعند كل تمثال منها أسد من نحاس فإذا هبت الريح من الارياح زأر ذلك التمثال الذي قبالة ذلك الباب فإن تناوحت الارواح زأرت جميعها . ومن ثم يأتي الهمداني بالخبر الثالث عن بناء القصر غمدان حيث قال "وحدثني عمرو بن اسحق بن محمد الحضرمي عن أبيه عن جده أن شعرم اوتر(جاء ذكره في النقش (nami 12) ) هو الذي وصل بنيان القصور وأحاط صنعاء بحائط، وأن الي شرح كان ملك غمدان وأنه بناه على سبعة أسقف كل سقف منها أربعين ذراعا، وكانت له أربعة أوجه بحجارة خضر ووجه بحجارة حمر، وكان في أعلاه غرفه لها لهج وهي الكوى (النوافذ، الطياق) ، كل كوة منها بناء رخام في مقيل من الساج والأبنوس وسقف الغرفة رخامة واحدة صفيحة" . وفي هذا الوصف ما يؤكده اثريا ويتوافق مع خبر الهمداني، وهو رسم نعتقد انه لقصر غمدان(اللوحة : 2).
ويضيف الهمداني ما قيل عن غرفة القصر قائلا: " قال أخر كانت الغرفة تحت بيضة رخام من ثمان قطع مؤلفه، وذلك أحرى لأنهم كانوا يثقبون فيها السرج فترى من رأس عجيب ولا ترى فيها حمرة النار مع الرخامة المسطوحة ويؤيد ذلك قول علقمة حيث قال:
مصابيـــــــح السليط يلحن فيـــــه إذا يمــــسي كتوماض البـــــــــروق ".
"وفي كل ركن من أركان القصر عند ترابيعه أسد من نحاس رجلاه في الدار وصدره ورأسه خارجان من القصر مفضى ما بين فيه (فمه) إلى دبره عن حركات فيه مدبرة، وكانت فيها ستور فيها الأجراس إذا ضربت تلك الريح تلك الستور تسمع الأصوات من تلك الأجراس من مكان بعيد، وإلى جنبه-القصر-نخلة سحوق تطرح بعسبانها إلى بعض أبهاء القصر تسمى اليانعة ( الدامغة ). وقصر غمدان يعتبر أحد بيوت العبادة المشهورة قال الشهرستاني في سياق حديثة عن بيوت الأصنام السبعة قبل الإسلام منها " بيت غمدان الذي بمدينة صنعاء اليمن بناه الضحاك على أسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه . نفس الخبر عند الرازي الذي خص غمدان على أنه من بيوت الأصنام المشهورة. من خلال ما سبق فأن الاعتقاد الذي يرجحه فيه بأن أسم غمدان أسم مشترك للقصر والمعبد.
قصر غمدان من خلال الآثار والنقوش والرسوم الصخرية القديمة:[2]
ثانيا: القصر الملكي غمدان من خلال الادلة الاثرية[3]
1- رسوم جرف اليهودي خولان:
جرف اليهودي: يقع في منطقة (سقف قروى في خولان) شرق مدينة صنعاء على بعد 15 كم تقريبا، وهو عبارة عن تجويف صخري من البازلت، عليه رسوم صخرية باللون الأحمر الداكن والأسود، تبلغ مساحة الرسم حوالي (2 أمتار وارتفاعه 1 متر )، لازالت هذه الرسوم محتفظة بألوانها حتى اليوم نظرا لارتفاعها ولعدم وصول أشعة الشمس إليها..... هذه اللوحة تتألف من ثلاث مجموعات معمارية رمز إليها (A,B,C)،(اللوحة :2). ويتقدم هذه المجموعات المعمارية خطوط متعرجة تمتد بشكل عرضي امام المباني والذي نعتقد انها تمثل مجرى مياه، ربما عنا فيه الرسام شكل قنوات مائية، نستطيع الترجيح بانها تمثل امتداد قناة مائية من جبال نقم وتمر من امام القصر وحتى الطرف الغربي للقصر وكذلك ما نعتقد بان يمثل مبنى للمعبد.
المجموعة الأولى (A):
وهي عبارة عن رسم بوابة معقودة بعقد نصف دائري ترتكز أكتاف العقد على برجين دائريين (نوبات حراسة ) ، يعلو كل برج بلاطتان كقواعد تحمل على كلا منها تمثال لوعل، وعلى مدخل البوابة يقف أربعة جنود حراسة رافعين أيديهم اليمين حاملة السيف، وعلى أيديهم اليسار أشكال الدرع الدفاعية وبشكل منظم ومرتب، ويظهر غمد السيف على خصر كل جندي منهم (اللوحة : 1-A) ، كما نجد تحت مستوى مدخل البوابة جدار حجري مكون من تسعة خطوط (مداميك ) يتخلل هذا الجدار خمس بلاطات قواعد لتماثيل الوعل، رتبت بشكل متوازي، ويعلو هذه القواعد شريط عريض زخرف بخط (زجزاجي) متكسر على شكل (X X X X) ويعلو عقد البوابة بناء مربع مكون من مستويين، يظهر في مستواه الأسفل ما يشبه نوافذ صغيرة تفتح من فوق العقد مباشرة ربما من اجل المراقبة، والأعلى ثلاثة أبراج مرتفعة، يتخللها بلاطتان كقواعد لتماثيل الوعل، وزينت أركان الأبراج بأعمدة حجرية صغيرة كشرفات للزينة، وقد رسمت هذه البوابة بخطوط ملونه باللون الأحمر القاتم .
لقد استطاع الفنان أن يعبر من خلال هذا الرسم عن جانب من الحياة اليومية وما كانت عليه أبواب ومداخل القصور في اليمن القديم، مبرزاً لخاصية الحماية والتحصين المتمثلة بالجنود والحراس وأسلحتهم ذلك الوقت، أيضا استطاع الفنان إبراز جانب التحصين من خلال الأبراج الدائرية التي تكتنف البوابة وأيضا غرف الحراسة أعلى البوابة، كذلك إبراز الجانب المعماري والزخرفي المتمثل في عقود البوابات الرئيسية والعقود المركبة التي تربط بين مبنى وأخر، كما استطاع الفنان إبراز طبيعة الزينة والزخرفة في عمارة القصر والمتمثلة في حيوان الوعل وهي بحالة الوقوف المتناسق وبشكل بارز في أركان القصر، إلى جانب طائر النسر، جميعها تعبر عن مستوى الفن الراقي الذي حققه الإنسان القديم ذلك الوقت في مجال الرسم والتصوير وفي مجال البناء والعمارة الخاصة بالقصور وزخرفتها وتزيينها بالتماثيل (اللوحة :1,2-A)، وقد استخدم حيوان الوعل للزينة في العمارة لما له من أهمية دينية خاصة أنه يعتبر رمز المعبود عثتر والمقة . وللوعل أهمية أخرى تكمن في حماية الإنسان من الشر، فقد وجدت تميمة برونزية محفور عليها شكل وعل كانت تلبس في عقد كرمز للمعبود المقة. لهذا يمكن القول أن الفنان أو الرسام حاول التركيز على تماثيل الوعل في عمارة البوابة وأبراجها باعتباره كائن له مكانته الدينية وبالتالي يعزز ويساهم في حماية البوابة وتحصينها، على اعتبار أن المعبودين عثتر والمقة تحمي وتحفظ ألمنشآت المعمارية، وقد نجد لمعركة الثعابين التي تلتف على طائر النسر ما يربطها بالحياة الدينية قديما،(اللوحة : 2) والتي استطاع من خلالها الفنان إظهار معركة الثعابين على طائر النسر وذلك يمين الرسم .
المجموعة الثانية (B) :
وهي التي في منتصف الرسم (اللوحة : 2)، رسمت بلون أحمر داكن على خلفية بيضاء من الجص، قوامها ثلاثة مباني شاهقة نرمز إليها بحروف (B 1,2,3)، ويحيط بها سور غير منتظم الشكل . وهي على الأرجح قصور عمارتها متميزة بزيادة ارتفاعها الذي يلاحظ أنها تضيق في عمارتها كلما كانت للأعلى في زوايا كل طابق علوي. ولها مداخل رائعة، وتحيط بها ممرات وإلى جانبها فناء وبهي شجرة النخيل الكبيرة وهي قريبة من قمة القصر على اليسار الذي يتميز بحجم الأحجار الكبيرة.
1- المبنى رقم (B1):
عبارة عن كتلة معمارية مربعة الشكل، يتألف من عدة طوابق شاهقة الارتفاع، يظهر البناء في المستويات العليا يتراجع ويرتد للداخل، وفي كل مستوى كانت توضع تماثيل وعول تشغل الأركان إضافة إلى تمثال طائر النسر مجنح (اللوحة : 2,B1). وهو رمز يعبر عن قوة المملكة وسيادتها. وفي أعلى المبنى نصبت بلاطتان كقواعد لتماثيل الوعل، يتميز هذا المبنى برسمه بشكل صغير مما جعله يبتعد عن المباني الأخرى من خلال فناء أو ساحة مكشوفة تتقدم المبنى (B1) يظهر وكأنه بأرضيه مبلطه يتقدمه مدخل لبوابة بارزة تعلوها قاعدتان لتمثالي الوعل تؤدي إلى خارج السور (اللوحة : 2,B1).
2-المبنى المتوسط (B2):
يلاحظ أن المبنى الأوسط والذي نرمز له بالرمز (B2) هو الأكبر والأكثر ارتفاعا، فيما اظهر الفنان المبنى (B1) بحجم اصغر وكأنه يتراجع للخلف محاولا إظهار البعد بينه وبين المبنى (B2) كما اشرنا سابقا، ويتميز المبنى (B2) بوجود قناطر معقودة تصله بالمبنى (B3)، ربما استخدمت كجسور للانتقال بين المباني، وعلى كل قنطرة ثلاث بلاطات نصبت عليها ثلاثة تماثيل للوعول، باستثناء القنطرة الأخيرة التي تربط المبنيين من أعلى (السقف) فإن قواعد تماثيل الوعل المنصوبة عليها خمس بلاطات، وبين تلك المباني (B2,3) فناء يحتوي على شجرة نخيل كبيرة تتدلى أغصانها وسعفها على جدران المبنى. والمبنى مربع الشكل شاهق الارتفاع، ويتميز في مستوياته الثلاثة العليا بارتداد البناء للداخل وكل ارتداد يأخذ مساحة فراغ غرفة تقريبا، مما جعله يبدو متدرج الشكل من أعلا إلى أسفل
.
وأشار أحد الباحثين في دراسته إلى أن هذا الرسم الصخري يتوافق مع ما وصف الهمداني لقصر غمدان وأن عدد طوابقه (20 طابق ) كل طابق (10 اذرع ).[4] إلا أن الباحث له رأي أخر من ناحية تعدد طوابق المبنى في هذا الرسم (اللوحة : 1,2) والتي لا تتجاوز السبعة طوابق وهو كالأتي: أنه من خلال ملاحظة الرسم ومقارنة أبعاده بأشكال الكتل المعمارية في جميع المباني الذي يحتويها الرسم الصخري في البوابات وغير ذلك، ويمكن أن نرجع بأن عدد الطوابق أو المستويات من أسفل إلى أعلى تكون ما بين (6-7 طابق تقريبا)، وهي مستويات معمارية معقولة لا نجد أكثر منها في النقوش المسندية كما سبق تناولة في الفصل الثالث في النقوش المتعلقة ببناء بعض القصور منها (YM 1695= Pir. Baynon 3Gr 27=Dje 12=) وهي ( ستة طوابق في قصرين بظفار والمشاول في المعافر (تعز ) والنقش الثالث من بينون الذي يذكر عدد الطوابق للقصر خمسة طوابق ) ، ولم نجد حتى ألان أي نقوش أخرى تتحدث عن مباني معمارية لأكثر من ستة طوابق، ومن ناحية أخرى لا يعقل في زمن ملوك سبأ وذي ريدان مقدرتهم –الملوك -بالصعود والنزول في قصرهم الذي يصل ارتفاعه عشرين طابق، وسوف يكون هناك مشقة للصعود متعبة جدا حتى لمرة واحدة في اليوم، وما نعرف اليوم عن مشقة الصعود لأي مبنى حديث حتى وأن كان ثلاثة إلى أربعة ادوار أو طوابق، فما بالنا بعشرين طابقا؟ . ويبدو أن إتقان الرسام لفنه التصويري الذي استطاع من خلاله إيجاد مقياس رسم كالأبواب والنوب الخاصة بالحراسة والأشكال الآدمية التي نرى أنها كافية لتحديد مستوى الارتفاع وعدد الطوابق، وقد يعتقد البعض أن كل مستوى في هذا الرسم طابق وليس صفة معمارية (اللوحة :2,B) وإذا عملنا بهذا الاعتقاد فأنه يجب اعتبار كل صف كطابق في باقي المباني في المجموعة (B)إضافة إلى البوابات ونوب الحراسة في الرسم الصخري (اللوحة : 1)، وبالتالي سوف يكون على البوابات عشرات الطوابق تحملها عقود مركبة وهو شي مستحيل ولا يستوعبه العقل والمنطق، وان مستوى ارتفاع هذا القصر كما اشرنا سابقا لا يتجاوز السبعة طوابق، وان كل صف أو مستوى مثلها الرسام في هذا الرسم يعتبر صفة معمارية واحدة فقط وليس كما اعتقد البعض طابق واحد .
واستنادا لما سبق وللتحليل العميق لهذا الرسم نجد الفرق بين القصر في المصادر الإخبارية وعند الهمداني والآثار (الرسوم الصخرية) حسب الأتي :
قال ألهمداني في اخباره عن بناء قصر غمدان سمعه من بعض أهل العلم قائلا:" أن غمدان كان على سبعة سقوف بين كل سقفين أربعين ذراعا، وهذا لا يمكن لان أربعين ذراعا بين كل سقفين كثير، واثبت ما ذكرناه أنه عشرون سقفا كل سقف على عشرة اذرع، ذلك مائتا ذراع، ولن يتعذر لقدرتهم على كل معجز من البناء، وكانت غرفة الرأس العليا مجلس الملك اثنتى عشر ذراعا -(5,40 متر تقريبا باعتبار الذراع 45 سم تقريبا) -عليها حجر من رخام وكان في زواياه الأربع أربعة اسود من نحاس اصفر خارجة صدورها فإذا هبت الريح في أجوافها زأرت كما يزأر الأسد" ويضيف الهمداني عن القصر قائلا :كان شاهق الارتفاع يناطح السحاب، واستخدم في بنائه الأحجار الرخامية ممردة صروحه بالجزع والمرمر، إضافة إلى استخدام المعادن كمادة لربط أحجار البناء فيما بينها، وكان على كل ركن من أركان القصر تمثال لأسد إلى جانب طائر النسر بغرض الزينة وإظهار القصر بطابع جمالي وأنيق، وللقصر قطارة لحساب الوقت، إضافة إلى قنوات الماء تمتد من الينابيع دائمة الجريان للقصر، وأعلى القصر غرفة المنظر(المفرج) مسقوفة بأحجار رخامية
وبالتالي نجد أن الرسم الصخري يتوافق مع ما جاء في النقوش المسندية التي جاء فيها عدد مستويات البناء ما بين (6-7 )طوابق، وأن اختلاف الإخباريين في تحديد مستوى الارتفاع للقصر ربما نتيجة أعمال بعض الناسخين ممن حرفوا المواضع عن أصولها، وعلى سبيل المثال الهمداني، اخبرنا عن القصر غمدان من خلال ما سمع عن أهل العلم بأنه سبعة طوابق بين كل سقفين أربعين ذراع (18 متر تقريبا)، ومن ثم يذكر اعتراضه لما ذكر محاولا تحليل وتفسير ذلك الخبر منطقيا بقولة : وأنه كثير ولا يمكن ذلك، لأن أربعين ذراعا كثير وان الأصح ما ذكره بأنه عشرون سقفا كل سقف على عشرة أذرع (4,50 متر تقريبا) فذلك مائتا ذراع أي (90 متر تقريبا). والمعروف أن الكثير عكس القليل واعتراض الهمداني على ما قاله أهل العلم عن قصر غمدان وذلك بتوضيح الشيء المعقول والمناسب ، إلا أن عدم فهم جملة الهمداني كما ذكرنا سابقا تزيد الكثير كثير ، وبشكل واضح يلاحظ في إمعان الجملة ، التي يبدو فيها أن الهمداني بعد سماعه لحديث أهل العلم عن ارتفاع قصر غمدان ،قام بتحكيم العقل والمنطق فوجد أن أربعين ذراع بين سقف وأخر شيء كثير، وربما أنه وضع اعتراضه بعد إجراء عملية حسابية نتج فيها أن الأربعين ذراع بين كل سقف وأخر تجعل من المبنى عشرين طابق وليس سبعة طوابق، لهذا لا يقصد الهمداني في كلامه عن قصر غمدان بأنه عشرون طابق وإنما الغرض من ذلك هو تدعيم حجته لاعتراضه حسابيا على الأربعين ذراع التي لا تتناسب مع الرقم سبعة .
الأمر الذي نعتقد بأن في هذه الجملة ما أصابها من تحريف من الناسخين، وأن الهمداني خص اعتراضه للأربعين ذراع التي وجدها حسابيا كثيرة لارتفاع مبنى من سبعة طوابق ،بعد ذلك الخبر نجد الهمداني يأتي بالخبر الثالث الذي يؤكد ما ذكره أهل العلم وذلك عن حديث عمرو بن إسحاق الحضرمي عن أبيه عن جده أن (الي شرح يحضب) بناه –غمدان-على سبعة أسقف كل سقف على أربعين ذراع) ، وهو خبر منطقي نجد له أثر في النقوش المسندية والبقايا الأثرية ، وبالتالي فأن قصر غمدان لا يتجاوز السبعة طوابق إذا ما استثنينا الغرفة العليا (المفرج) ، وإن كان الهمداني قد سبقنا في اعتراضه على المسافة (الأربعون الذراع ) بين كل سقف وأخر (18 متر تقريبا) ، على أنها مسافة كبيرة، ونحن معه في اعتراضه وفي نفس الوقت نؤيده بأن المسافة بين كل طابق وأخر عشرة أذراع أي ما يعادل (4,50 متر تقريبا ) إذا ما استثنينا المسافة الخاصة بالطابق الأرضي والتي ربما كانت بما يقارب (18 متر تقريبا) وكانت الغاية من ارتفاع الطابق الأرضي لغرض تحصيني (اللوحة : 64).
كما زينة أركان القصر بتماثيل لحيوان الوعل وهي بارزة عن سمت واجهة جدار المبنى ،وفي أعلى سطح هذا المبنى نصبت أربع بلاطات استخدمت كقواعد لتماثيل الوعل أيضا، وهي خاصية نجدها في باقي الرسوم الصخرية والدراسات الأثرية (اللوحة : 2,B2).
3- المبنى (B3):
يشابه هذا المبنى المباني السابقة في هذه المجموعة من حيث الشكل والارتفاع وتراجع مستويات البناء العليا إلى الداخل وزينت أركانه بتماثيل الوعول أيضا، إلا أنه يتميز بوجود ما يشبه (مسارج) يتصاعد منها الدخان في أعلاه ،كذلك يوجد له مدخل بارز في أحد جوانبه يعلوه بلاطة استخدمت قاعدة لتمثال الوعل، كما أن هذا المبنى يرتبط بالمبنى المجاور له (اللوحة : 2-B2)، بواسطة القناطر المعقودة سابقة الذكر . وإلى جوار هذا المبنى تظهر أشكال لحيوانات وأشجار، إلى جانب ما نعتقد أنها نافورة مائية لها قاعدة مثلثة يتوسطها شكل هلال يرتكز على عمود صغير مثبت على قاعدة مستوية ربما أنها ساعة مائية (قطارة ) لحساب الوقت والزمن (اللوحة :
1,2).
وإلى جانب هذا المبنى أيضا أشجار النخيل الذي نعتقد أن زراعتها كانت من العادات والتقاليد المتوارثة ،وكانت تغرس أشجار النخيل في ساحة القصور والمنازل ،ولا يزال لها بقية بشكل نادر في بعض بساتين صنعاء القديمة حتى اليوم، وفي هذه المجموعة فارس يمتطي الفرس بشكل قتالي يحمل على يده اليمنى رمح وجه إلى شخص أخر أمامه.[5] وخلفهما ما يشبه طائر خرافي مجنح (اللوحة :2,B3) كذلك لم يهمل الرسام هويته وذلك برسم حروف المسند التي نجدها في هذه المجموعة وفي أماكن متفرقة من الرسم ، والواضح منها في هذه المجموعة حرف " و ث " (و ث ) . (اللوحة : 2,B)
المجموعة الثالثة (C):
هذه المجموعة قسمت إلى قسمين الأول للبوابة ونرمز إليها بــ (C1)، والقسم الثاني لمبنى مستطيل الشكل تقريبا ، نرمز له بــ(C2)(اللوحة : 2,C).
1- البوابة (C1):
هذه البوابة الحصينة تشابه البوابة السابقة من حيث الشكل والزينة (اللوحة: 2,A) إلا أنها تتميز بست قواعد لتماثيل الوعل ثبتت على بلاطات بارزة للأعلى على عقد البوابة (اللوحة : 2,c1) ، ويظهر أمام البوابة أربعه أشخاص حراس هذا المدخل التابع للقصر في حالة قتال ومواجهة كل حارس مع أخر ، يستخدمون الأسلحة المتنوعة ذلك الوقت (عطوف ، سيوف ) ، كما يظهر شخصان أمام البوابة احدهم فارس يمتطي فرس حاملا على يده اليمنى الرمح الذي وجه إلى أحد حراس البوابة الذي يتصدى لهذا الفارس بيمناه بالسيف ويسراه بطبق قرصي دائري تحميه من ضربة الرمح الموجه إليه (اللوحة : 2,c1).
2-المبنى(C2) :
وهو عبارة عن مبنى مستطيل الشكل له صفات معمارية منتظمة الشكل ، وعلى (السقف) ست بلاطات حجرية بارزة للأعلى وهي قواعد لستة تماثيل لحيوان الوعل وما يرجح إليه الباحث أنه المعبد الذي يتبع القصر باعتبار السور العام للقصر يحيط بهذا المبنى أيضا بمعنى انه من يتبع القصر غمدان (اللوحة : 2,c2).
3-الكتابة المسندية والمخربشات في الرسم الصخري:
" هر/ عثتر2-بن /خمرن " (1-.... هر/ عثتر2-بن /خمرن )النقش الثاني "..م/ ومعودم " (..م/ ومعودم) الثالث " نصرم / بن/.. "(نصرم / بن/..) الرابع " حيوم/بن / . عرم " (حيوم/بن / . عرم ). إضافة إلى رسوم قديمة يطلق عليها علماء الآثار (رسوم عودية) تعود للعصر البرونزي . كما نجد معارك بين الثعبان والنسر وذلك بشكل قتالي استطاع الرسام إبراز ذلك القتال بين مهاجم ومدافع عن القصر، وربما هي أشارة واضحة قصدها الفنان للكشف عن حدوث حرب بين الثعبان الذي يمثل رمز الكيان السبئي، وبين النسر رمز المعبود الحميري ، وتحديدا على أسوار القصر غمدان (صنعاء )، وكان النصر حليف سبأ ، وربما غير ذلك (اللوحة :2,A).
من ناحية أخرى نجد أن هذا الرسم (اللوحة : 1) بما يحتويه من أشكال معمارية وهندسية ينطبق تماما على قصر غمدان حسب وصف الإخباريين وخاصة عند الهمداني وتناولنا ذلك في الفصل الأول ،من حيث التخطيط والشكل والزخارف والزينة الخارجية التي تميز فيها القصر وهي سبب شهرته عند الإخباريين، كما أن تخطيط الرسم بشكل عام مماثل لموقع مدينة صنعاء القديمة (اللوحة: 7) من حيث مساحة وطبوغرافية الموقع ( اللوحة: 18، 65)،خاصة في شكل السور وأبواب القصر وهي ما نعتقد أنها أصبحت فيما بعد أبواب المدينة وهي ثلاثة (شرقي ،جنوبي، شمالي غربي) وتعرف اليوم باب قصر السلاح وباب شعوب وباب اليمن (اللوحة : 7).وهي التي اضهر فيها الفنان لهذا الرسم شكل القنوات المائية والتي كانت ترفد القصر بالمياة من جبال نقم ،ولها اثار حتى الوقت الراهن حيث لا تزال بقايا القنوات في جبل نقم ومنشاة مائية (مواجل) ،البعض منها لا يزال يحتفظ بمادة القضاض .
الأمر الذي يمكننا من خلاله ألترجيح بان تأسيس مدينة صنعاء بدأت في منتصف القرن الأول الميلادي وفقا لنص التأسيس الخاص بها في عهد (هلك امر بن كرب ايل وتار يهنعم ) ،وأنها أصبحت مدينة حصينة يحيطها السور والبوابات الرئيسية ذلك الوقت.
وتطرق إلى ذلك أحد الباحثين قائلا: جاء قصر غمدان ليسمح بنشوء المزيد من المباني لحرس الملك السبئي وحاشيته وأسوار القصر وتحصيناته، ويتبع هذا التجمع المعماري والبشري وجود المعبد أو مركز العبادة، وقد أدى هذا التطور إلى فرض أنشطة أخرى تجارية وحرفية خارج أسوار القصر وحوله. كما أدت هذه العناصر بالإضافة إلى موقع المدينة الواقعة في ملتقى الطرق التجاري القديم إلى زيادة النمو الحضري للمدينة ضمن فترات تناوب فيها النمو والتقلص بسبب الحروب والاضطرابات السياسية والاقتصادية.[6]
كما نتفق مع رأي (بونانفان) بأن مدينة صنعاء قد بدأت في موقع القصر )قصر غمدان( والذي يطل على السهل كله. ولذا فمن المحتمل أن تكون المدينة قد نمت وتطورت في المساحة الكائنة بين الموقع القديم للقصر وبين مقر الإقامة الملكي الجديد . ويعتقد بأن صنعاء كانت قبيل انبثاق الإسلام في القرن السابع الميلادي مقسمة إلى قسمين أساسين : الأول في الشرق وهو أكثر قدماً، ويدعى القطيع وهو يشتمل على منطقة القصر والأسواق والكنيسة وقصر غمدان.
وعن موقع القصر غمدان فأنه كان ممتدا شرقا من شرق الجامع الكبير إلى حد مسجد ألحميدي المعمور الآن، كما يظهر من بعض وثائق الوقف القديمة (اللوحة : 7)، وفي الطول من الجنوب من قرب باب اليمن إلى حد مسجد الشهيدين (المشهد).[7]
وبالتالي فإن الرسم الصخري في سقف خولان صورة لقصر غمدان استنادا لما وجدناه من توافق في المصادر الإخبارية مع المصادر الأثرية، وبشكل واضح من حيث الموقع والعمارة والشكل. ويعد موقع قصر غمدان قديما (صنعاء القديمة حديثا) حيث تحتل موقعا وسطا إلى خطوط العرض في اليمن، وتقع على خط العرض(15,15 )شمالا وعلى خطي طول(44,15 شرقا و 44,20شرقا).[8]
أما عن المبنى المستطيل غربي القصر في الرسم الصخري (اللوحة : 2,c1) والذي يبدو بأنه منشأة دينية ،ربما كان المعبد التابع للقصر قديما والذي جاء ذكره في نقش (CIAS 39.11/03n06)، السطر (11) :" وهبررت/ ددت/ لشوع ن / ش ف ن أ ب / و ع د وت / م ح ر م ن / ذ أ وم / ذ خ (12) ل ف / ص ن ع و / ب م ل ب س م / م ج ي ب م / و ن ق م ه و / " ،(11) :" و هـ ب ر ر ت/ د د ت/ ل ش وع ن / ش ف ن أ ب / و ع د وت / م ح ر م ن / ذ أ وم / ذ خ (12) : ل ف / ص ن ع و / ب م ل ب س م / م ج ي ب م / و ن ق م هـ و / " ، والمعنى : وخرجت دادة لمرافقة شافني أب لكنها توجهت إلى معبد اوام الذي في باب صنعاء بملبس مجيّب.
ومما سبق نعتقد بان موقع ذلك المعبد كان بالقرب من بوابة مدينة صنعاء وربما موقع مبنى الجامع الكبير اليوم ،وأنه بني على أطلال ذلك المعبد قديما ، (اللوحة :2,c1) كما نرجح أن البوابة الشرقية في الرسم (اللوحة : 2,A ) هي ما يسمى اليوم قصر السلاح . وهي القلعة التي كانت تمثل بوابة للقصر غمدان(عبد الله : يوسف محمد -أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري في العصور الإسلامية ،مصدر سابق، ص24)، وأن البوابة الجنوبية الغربية في الرسم (للوحة : 2,c1) ربما هي نفس البوابة الباقية لليوم في صنعاء وتسمى (باب اليمن ) وأن البوابة الشمالية الغربية في الرسم كان موضعها باب شعوب اليوم تقريبا.
من ناحية أخرى السور الذي يحيط القصر في الرسم بشكل بيضاوي والذي استطاع الفنان أظهار تخطيطه وعمارته المرتفعة في الناحية الجنوبية للقصر وأنه مماثل تماما لشكل وتخطيط سور مدينة صنعاء القديم (اللوحة: 65,18)، الذي لا زال قائما إلى اليوم على الرغم من الاستحداث فيه والإضافات على السور في الناحية الجنوبية لمدينة صنعاء القديمة .
وكما سبق نستطيع الترجيح بأن الرسم الصخري الأنف ذكره هو لقصر غمدان دون أدنى شك في ذلك ،اعتمادا على ما سبق إيجازه وللأسباب الآتية :
في البداية تتوافق المصادر الإخبارية مع الرسم الصخري لقصر غمدان وبشكل دقيق من حيث بنائه وعمارته وزخرفته وأنه متعدد الطوابق للقصر ومحصن بسور وإلى جواره نخله مشهورة تسمى الدامغة تتدلى بأغصان سعفها بين بهو القصر ، وأنه زين في أركانه بتماثيل حيوانية،(اللوحة: 1,2) كذلك نجد توافق خاص بين المصادر الإخبارية والرسم الصخري من حيث نمط البناء المتميز بارتداد جدران ( المداميك) للداخل ،ويكون عرض المدماك في الطابق الأعلى اقل عرضا من الطابق الأسفل .
والأهم من ذلك توافق الخبر مع الأثر في الساعة المائية التي اشتهر فيها القصر ،كل هذه الخصائص تجعلنا نرجح بأن ألرسم الصخري (اللوحة : 1) هي بالفعل تمثل صورة حقيقة لشكل القصر غمدان كما كان عليه ذلك الوقت ، و نعتقد بأنه يعود للفترة ما بين القرن الأول والثالث الميلادي تقريبا ، وان الفنان صوره برسمه الفني الواقعي ليكون سهل التعرف على هويته بأسلوب صادق يؤكد على وجود مدرسة خاصة بفن الرسم الواقعي في اليمن القديم .
كما يبدو أن هذا الرسم مماثل لبقيت الرسوم الصخرية خاصة من ناحية تعدد الطوابق والبناء الشاهق ،ويمكن الاعتقاد بمثل هذا النمط الهندسي والمعماري في قصر غمدان وباقي القصور الملكية في اليمن القديم مثل قصر سلحين في مدينة مارب وغير ذلك .
وبالتالي فأنه ومن خلال ما سبق ذكره في المصادر الإخبارية ،وبعد مقارنتها مع المصادر الأثرية (الرسوم ) نستطيع معرفة طبيعة قصر غمدان ومكوناته المعمارية وعناصر الزخرفات فيه، نستنتج أن القصر عبارة عن مجموعة مباني تتوسطها الصروح والساحات المكشوفة في موقع جبوب النعيم الذي ذكره الهمداني أمام البوابة الشرقية للجامع الكبير (اللوحة : 7,8)،وللقصر سور تحصيني تتوزع فيه المحافد والأبراج وله بوابات حصينة ،وله ملحقات أخرى مثل البساتين التي تتميز بأشجار النخيل وغيرها ،وإلى جوارها الساعة المائية التي تقسم الماء، وزين كل مبنى من مباني القصر مدنية أو دينية أو تحصينية بتماثيل حيوانية تجسد حماية المعبود للمباني وخاصة عثتر ، وتعكس إبداع الفنان اليمني القديم ، كما نستطيع الترجيح بخاصية يتميز بها القصر في اليمن القديم وهي سعته وارتفاعه الشاهق وفراغاته الفسيحة، وكخاصية تحصينية نجد ارتفاع الطابق الأول والثاني، وربما دون أي أبواب أو نوافذ كبيرة باستثناء ما هو للتهوية وأخرى دفاعية مثل المزاغل وغير ذلك(اللوحة: 64,66).
من ناحية أخرى فإن الباحث يعتقد وفقا للرسم الصخري لقصر غمدان، بوجود السراديب الآمنة والسرية في القصر القديم، وهي تقنية هندسية تنتشر في عموم اليمن القديم خاصة في القصور (اللوحة: 16,49,67) ، وسبق إيراد بعض الأمثال في المصادر الإخبارية مثل سرداب براقش في الجوف الذي يصل الحصن بالبئر خارج الحصن وهو تحت الأرض، وفي رسم قصر غمدان نعتقد بوجود سراديب مخفية تحت الأرض، كما نعتقد أن وجود القناطر والجسور التي تصل المباني مع بعضها البعض خاصية تنفرد فيها عمارة اليمن القديم، ولم يسبق التطرق إليها نتيجة غياب المسوحات الأثرية في اليمن بشكل عام وحول صنعاء خاصة ، وربما أن استخدام تلك القناطر والجسور في قصر غمدان وغيره من القصور الملكية القديمة ،لما لها من خاصية هندسية فريدة اعتمد عليها من ناحية تحصينة للتواصل بين تلك المباني، وفي نفس الوقت تكون لوحات جمالية تزين القصر .
وربما أن الأبواب والمداخل لقصر غمدان كانت من أحد المباني وباقي الأبواب وهمية ومخفية عن الأنظار، وانه اعتمد على تلك القناطر لعملية الانتقال والتواصل بين مباني القصر خاصة وهي متقاربة ومتجاورة يؤهلها لذلك (اللوحة : 2) . وان صح ما نعتقد به فان هذه التقنية الهندسية التي ابتكرها اليمنيون القدماء من اجل التحصين الحصين للقصر تعد الفريدة من نوعها حتى الآن على مستوى شبه الجزيرة العربية ان لم تكن في العالم القديم تقريبا.
لهذا فان ما سبق ذكره عن قصر غمدان من شتى النواحي الإخبارية والأثرية كفيلة ليكون من عجائب الدنيا، كما يقول السيوطي عن الجاحظ وغيره : عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة: عشرة منها بسائر البلاد، وهي مسجد دمشق، وكنيسة الرها، وقنطرة سنجة، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون، وإيوان كسرى بالمدائن، وبيت الريح بتدمر، والخورنق بالحيرة، والثلاثة أحجار ببعلبك. والعشرون الباقية بمصر.[9]
من ناحية أخرى وجود الأبواب والمداخل الرئيسية للقصر بوسائل تحصينية كالأسوار والمحافد ونوبات الحراسة، تعتبر الدرع الأول الذي يحتمي خلفه القصر، ومن ثم عمارة القصر وخلوه في الطوابق الأرضية من النوافذ وربما المداخل الرئيسية لوجود وسائل هندسية تكفل عملية التواصل فيما بين مباني القصر والتي نجدها إلى جانب الممرات والطرق (السراديب) تحت الأرض وتتمثل بالقناطر والجسور كما نلاحظ ذلك في الرسم السابق(اللوحة :1 ،2)، وهي دليلا يعتمد عليه في تأكيد ذلك ، وربما كانت هنالك أبواب بحالة استثنائية بشكل وهمي إلى جانب البوابات الرئيسية ،لخداع المهاجمين الذين ربما قد يعتقدوا أنها حقيقية، ولعل الكثير من اللوحات الفنية القديمة والتي تتضمن مداخل ومنافذ وهمية ترمز لتلك التقنية الحربية .
إن عملية البناء والتشييد لجدران ومداميك القصر وفقا لتقنية هندسية يمنية بحتة، والتي يطلق عليها قديما مداميك الجدران "جروب " لترابط بعضها مع بعض بأسلوب المعاريب والتعشيق (ذكر وأنثى ) والذي لا يترك البناؤون فيها أي فراغات أو فواصل لا تسمح لدخول إبرة خياطة فيما بينها .
وتكمن أهمية التخطيط والهندسة بتقنية المعاريب في مقاومة الهجمات الخارجية والتي يستحيل عليها تحريك أو زحزحة أحجار المبنى من أسفل لقوة الترابط فيما بينها وأحجامها الكبيرة والملساء إلى جانب سهولة السيطرة الدفاعية من أسقف مبنى القصر العالية بالسهام أو صب أي مواد حارقة وغير ذلك، وهنا تكمن أهمية القصر في اليمن القديم في التخطيط الهندسي وتقنية البناء والتشييد ووسائل التحصين الذي نعتقد بتنفيذها في قصر غمدان وربما في قصور أخرى في اليمن القديم ، كما نرجح بأن سبب شهرة القصر غمدان ليس في ارتفاعه الشاهق وزخرفته وحسب، وإنما في تخطيطه وهندسته وتقنياته الدفاعية والتحصينية، التي أكدتها الرسوم الصخري دون أدنى شك في ذلك، ولعل خلو بعض المباني من الأبواب والمداخل الرئيسية كفيلة في تأكيد ذلك، وفي منطقة حاز وجدنا آثار باقية لتلك التقنيات التحصينية (اللوحة : 66 ) ، ويذكر أهالي قرية حاز وبيت غفر ما يتناقلون عن أبائهم في تقنية الأبواب السرية(السراديب)،وأن قصر حاز كان له باب وهمي، وأن مدخلة الرئيسي من خلال سرداب(نفق) تحت الأرض يمتد من مبنى القصر وحتى خارج القرية إلى سد مائي قديم (اللوحة : 66). وسبق التطرق لما ذكره الهمداني عن قصر حاز وما جاء عنه في النقوش سابقا.[10]
قصر غمدان من عجائب بلاد العرب
ذكر الرحالة محمد القزويني غمدان في رحلاته كأحد عجائب بلاد العرب. يعتبره بعض المؤرخون أنه من أوائل القصور الضخمة في العالم وهناك اعتقاد بأن موقع القصر يقع في منشأة قصر السلاح القائمة حالياً في صنعاء القديمة بينما ترى جهات أخرى أن الجامع الكبير بصنعاء قد بني على أنقاض هذا القصر، أما أبواب الجامع الكبير فمن الثابت كونها هي نفسها أبواب قصر غمدان وعليها كتابات بالخط المسند. ذكره الهمداني في كتاب الإكليل في الجزء الثامن بقوله:-
يسمو إلى كبد السماء مصُعّداً عشرين سقفاً سمكها لا يقصرُ |
أما ياقوت فوصفها وقال بإن غمدان سبعة سقوف بين كل سقفين منها أربعون ذراعا[11]
بناءه
== سبق الذكر ما جاء في المصادرالاخبارية عن قصر غمدان، ولعل الهمداني قد تميز في ذكره عن البناء والتاسيس الخاص بالقصر قائلا: عن حديث عمرو بن إسحاق الحضرمي عن أبيه عن جده أن (الي شرح يحضب) بناه –غمدان-على سبعة أسقف كل سقف على أربعين ذراع) ، وهو خبر منطقي نجد له أثر في النقوش المسندية والبقايا الأثرية ، وبالتالي فأن قصر غمدان لا يتجاوز السبعة طوابق إذا ما استثنينا الغرفة العليا (المفرج)[12]، وهو الملك السبئي إيلي شرح يحضب [محل شك] [13] بينما ترجح الروايات أن بانيه هو سام بن نوح [14] -الذي سميت صنعاء باسمه قديماً- إذ يقول : ( والذي أسس غمدان وأبتدأ بناءه وأحتفر بئره التي هي اليوم ساقية لمسجد صنعاء " سام بن نوح " عليه السلام ) ويسرد في ذلك قصة لبنائه، فقال : ( ارتاد " سام بن نوح " البلاد فوجد اليمن أطيب مسكناً فوضع مقرانته، فبعث الله طائراً فاختطف المقرانة وطار بها فتبعه " سام " لينظر أين وقع فأم بها إلى جبوب من سفح نقم وطرحها على حرة غمدان فعلم " سام " أنـه قد أمر بالبناء هنالك فأسس غمدان ). == بينما نسبه ابن هشام وابن كثير إلى يعرب بن قحطان وقال أكمله من بعده "وائل بن حمير بن سبأ بن يعرب".[15]
تهدمه
تختلف الروايات والأخبار عن هدم قصر غمدان ولكن ترجح الدراسات اليمنية إلى أن تهدم قصر غمدان كان قد مر بمراحل منها ما إصابة من حريق أيام الغزو الحبشي لليمن حوالى (525) للميلاد وهدم جزء منه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تهاوي ما بقي منه في أيام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.[16]
بينما يروي بعض المؤرخين الإسلاميين أن قصر غمدان قد جرى هدمه بأمر من الخليفة عثمان بن عفان.[17] وقيل: وجد على خشبة لما ضرب وهدم مكتوب برصاص مصبوب (أسلم غمدان هادمك مقتول) فهدمه عثمان بن عفان فقتل.
و قال بن الكلبي : كان كل ركن من أركان غمدان مكتوباً بالحميرية : "أسلم غمدان معاديك مقتولا بسيف العدوان" .
ويروى أن عمر بن الخطاب قال: " لا يستقيم أمر العرب ما زال فيهم غمدان". وهذا القول هو الذي حض عثمان بن عفان على هدمه.[18]
تاريخه
أقدم ذكر لقصر غمدان في النقوش يرجع إلى عهد الملك السبئي شعرم اوتر ملك سبأ وذي ريدان في عام 220 للميلاد، والنقش يذكر فيه قصريين هما قصر سلحين في مأرب وقصر غمدان في صنعاء، وهناك نقش أخر يعود تاريخه إلى منتصف القرن الثالث الميلادي في عهد الملك إيلي شرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان.[19]
في حين تذكرت دائرة المعارف البريطانية بأنه ورد في بعض النقوش التي وجـدت في بعض الأحجار المتكسرة والتي تعود إلى القرن الأول الميلادي.[19]
وذكر في كتاب ابن كثير أن من بنا قصر غمدان يعرب بن قحطان وقد اكمله بعده وائل ابن حمير بن سبأ بن يعرب .[المصدر 1]
مراجع
- للمزيد: انظر- الحاير- انور محمد يحيى: القصر في اليمن القديم( بين الخبر والاثر)، رسالة ماجستير، جامعة صنعاء، 2014.
- تناول هذه الدراسة الباحث انور محمد يحيى الحاير، عام 2014، وهي دراسة مقارنة للقصر في اليمن القديم بين المصادر الاخبارية مع الاثار القديمة
- جميع الاقتباس اعتمادا الحاير: أنور محمد يحيى- القصر في اليمن القديم، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة صنعاء، 2014، ص195-209
- Al-Salami ; Mohammed-Die Felsmalereien Von Garf Al-Yahuduim Zentraljemenitischen Hochland,Reichertverlag wiesbaden, band xiii,2012,p94
- Al-Salami ; Mohammed-Die Felsmalereien Von Garf Al-Yahuduim Zentraljemenitischen Hochland,Reichertverlag wiesbaden, band xiii,2012,p95
- الحداد : عبد الرحمن يحي - المظاهر التاريخية للتطور الحضري لمدينة صنعاء القديمة ، مجلة دراسات يمنية، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، العدد ٤٥ ، يناير- مارس، ١٩٩٢ م، ص 196
- الصافي : فاطمة – قصر غمدان ، مجلة الاكليل عدد2، 3 عام 1983م ،ص 119
- تمام : مصطفى عبد العال – مدينة صنعاء ومسيرة التطور الاستيطاني الحضري ، مجلة كلية الاداب ، جامعة صنعاء ،عدد8، 1988م، ص 113.
- السيوطي : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى : 911هـ)- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة،تحقيق:محمد ابو الفضل ابراهيم ، دار إحياء الكتب العربية،جمهورية مصر، ط 1 ،1967م ،ج1،ص65.
- الحاير: أنور محمد يحيى- القصر في اليمن القديم، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة صنعاء، 2014، ص209
- ياقوت الحموي : معجم البلدان
- الهمداني: ابى محمد الحسن- الاكليل الجزء 8، تحقيق: الاكوع، وزارة الثقافة، 2004، ص 79.
- Al-Salami ; Mohammed Ali-Sabäische Inschriften aus dem Äawl¤n, Doctor philosophiae (Dr. phil.), vorgelegt dem Rat der Philosophischen Fakultät der Friedrich-Schiller-Universität Jena,2007,p132.
- الهمداني في كتابه الأكليل
- "كتاب البداية والنهاية لإبن كثير - الجزء الثاني - خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن". مؤرشف من الأصل في 6 مارس 2015. الوسيط
|CitationClass=
تم تجاهله (مساعدة) - "قـــصــــــر غـمـــدان..اول ناطحات السحاب في العالم". مؤرشف من الأصل في 4 مارس 2016. الوسيط
|CitationClass=
تم تجاهله (مساعدة) - "قصر غمدان..اول ناطحات السحاب في العالم". مؤرشف من الأصل في 4 مارس 2016. الوسيط
|CitationClass=
تم تجاهله (مساعدة) - كتاب تاريخ المستبصر
- "قصر غمدان الكنز المفقود". مؤرشف من الأصل في 28 يونيو 2017. الوسيط
|CitationClass=
تم تجاهله (مساعدة)
- بوابة قصور وقلاع
- بوابة القوات المسلحة اليمنية
- بوابة اليمن
- "قصر غمدان قصة قصر غمدان أكبر قصر في العالم من البناء الى الهدم". ثقافة بالعربي. 2018-05-01. مؤرشف من الأصل في 12 ديسمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 02 مايو 2018. الوسيط
|CitationClass=
تم تجاهله (مساعدة)