الكساد الكبير في الولايات المتحدة

بدأ الكساد الكبير مع انهيار وول ستريت في أكتوبر عام 1929. أشار انهيار السوق المالي إلى بداية عقد معدلات بطالة عاليةٍ وفقرٍ وأرباح متدنية وانكماش وهبوط الإيرادات الزراعية وفرص ضائعة للنمو الاقتصادي وكذلك للتقدم الشخصي. إجمالًا، كان هناك فقدانٌ عام للثقة في المستقبل الاقتصادي.[1]

تشتمل التفسيرات المعتادة على عوامل عديدة، خصيصًا ارتفاع مديونية المستهلك وأسواقًا سيئة التنظيم سمحت بقروضٍ مفرطة في التفاؤل من قبل المصارف والمستثمرين، والافتقار لصناعاتٍ جديدة ذات نمو عالٍ. تفاعلت جميع هذه العوامل لتخلق دوامة تدهور اقتصادي من إنفاق منخفض وهبوط في الثقة وإنتاج منخفض. اشتلمت الصناعات الأكثر تضررًا على البناء والشحن والتعدين والتحطيب (تضاعفت مع قصعة الغبار في المركز). وتضرّرت بشكل كبير أيضًا صناعات بضائع متينة مثل السيارات والأجهزة، التي يمكن تأجيل شرائها. وصل الاقتصاد إلى أسوأ أحواله في شتاء 1932-1933، ثم تلتها أربع سنين من النمو حتى أعاد الركود الاقتصادي في 1937-1938 مستوياتٍ عالية من البطالة.[2][3]

تسبب الكساد بتغيرات سياسيةٍ كبرى في أمريكا. بعد ثلاثة أعوام على الكساد، خسر الرئيس هيربيرت هوفر، الذي عُيِّر على نحو واسع لعدم فعله ما هو كافٍ لمواجهة الأزمة، انتخابات عام 1932 لمصلحة فرانكلين روزفلت بفارق كبير إلى حد محرجٍ. وَضَعت خطة الرئيس روزفلت للإنعاش الاقتصادي، الصفقة الجديدة، برامجًا غير مسبوقةٍ من المعونة والإنعاش والإصلاح وأحدثت تعديلًا كبيرًا في السياسة الأمريكية، لكنها لم تحقّق إنعاشًا حقيقيًا من الكساد الكبير.

نتج عن الكساد أيضًا زيادةٌ في النزوح للمرة الأولى في تاريخ أميركا. عاد بعض المهاجرين إلى بلدانهم الأم، وذهب بعض المواطنين الأصليين الأمريكيين إلى كندا وأستراليا وجنوب أفريقيا. كان هناك هجراتٌ ضخمة لأهالي المناطق المتضررة بشدة في السهول الكبرى (الأوكيز) والجنوب إلى أماكن مثل كاليفورنيا ومدن الشمال (الهجرة الكبرى). تزايدت أيضًا توترات عرقية خلال هذه الفترة. بحلول أربعينيات القرن العشرين عادت الهجرة إلى مستواها الطبيعي، وتراجع النزوح. كان فرانك مكورت، الذي ذهب إلى أيرلندا، المثال الشهير لمهاجر كما يَذكر في كتابه رماد آنجيلا. [4] [5]

صاغت ذكرى الكساد أيضًا نظرياتٍ حديثةً في الاقتصاد ونتج عنها تغيرات عديدة في كيفية تعامل الحكومة مع الانكماشات الاقتصادية، مثل استخدام الحِزم التحفيزية والاقتصاد الكينزي والضمان الاجتماعي. كذلك صاغت أيضًا الأدب الأمريكي الحديث، إذ نتج عنها روايات شهيرة مثل روايات جون ستاينبيك عناقيد الغضب وفئران ورجال.

يطرح تفحص أسباب الكساد الكبير العديد من المسائل: ما هي العوامل التي أطلقت الانكماش الأول في عام 1929، ما هي نقاط الضعف البنيوية والأحداث الخاصة التي حولته إلى كساد كبير، كيف امتدّ الانكماش من بلد إلى آخر، ولماذا استغرق التعافي الاقتصادي فترةً طويلة.[6]

بدأت العديد من المصارف بالفشل في أكتوبر 1930 حين تخلّف المزارعون عن تسديد القروض. آنذاك لم يكن ثمة شركات تأمين للودائع الفيدرالية، إذ اعتُبر الفشل المصرفي جزءًا طبيعيًا من الحياة الاقتصادية. بدأ المودعون القلقون بسحب مدخراتهم، وراح المضاعف النقدي يعمل عكسيًّا. أُرغمت المصارف على تصفية الأصول (مثل المطالبة بتسديد القروض عوضًا عن خلق قروض جديدة). تسبب هذا بتقلص المعروض النقدي وانكماش الاقتصاد (الانكماش الكبير)، ما نتج عنه هبوط حاد في الاستثمار الكلي. فاقم المعروض النقدي المنخفض من انكماش الأسعار، واضعًا المزيد من الضغوط على الأعمال المتعثرة أساسًا.[7]

منع التزام حكومة الولايات المتحدة بغطاء الذهب من اتّباع سياسة مالية توسعية. كانت أسعار الفائدة المرتفعة بحاجة للحفاظ عليها من أجل جذب مستثمرين دوليين اشتروا أصولًا أجنبية مقابل الذهب. إلا أن الفائدة المرتفعة ثبَّطت أيضًا الاقتراض التجاري المحلي. تأثرت أسعار الفائدة الأمريكية أيضًا بقرار فرنسا رفع أسعار الفائدة الخاصة بها لجذب الذهب إلى خزائنها. نظريًا، امتلكت الولايات المتحدة ردين محتملين على ذلك: السماح بتعديل سعر الصرف، أو زيادة أسعار الفائدة الخاصة بها للحفاظ على غطاء الذهب. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة مرتبطة بغطاء الذهب. ولذلك السبب، حوّل الأمريكيون دولاراتهم إلى فرنكات لشراء المزيد من الأصول الفرنسية، هبط الطلب على الدولار الأمريكي، وارتفع سعر الصرف. أحد الخيارات القليلة المتاحة أمام الولايات المتحدة للعودة إلى حالة التوازن كان رفع سعر الفائدة.[8]

احتج الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل ميلتون فريدمان وزميلته النقدية آنا شفارتز بأن النظام الاحتياطي الفيدرالي قد يكون وراء شدّة الكساد، غير أنه فشل في ممارسة دوره في إدارة النظام النقدي وإصلاح الذعر البنكي، متسببًا بانكماشٍ كبير في الاقتصاد منذ عام 1929 حتى بداية الصفقة الجديدة عام 1933. أيّد هذا الرأي رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بين بيرناكي الذي أدلى بهذا التصريح في خطاب تكريم فريدمان وشفارتز:

«دعوني أنهي حديثي بالإساءة قليلًا إلى مكانتي كممثل رسمي للاحتياطي الفيدرالي. أود ان أقول لميلتون وآنا: بخصوص الكساد الكبير، أنتما على حق. نحن تسببنا به، نحن متأسفون بشدة. لكن بفضلكما، لن نتسبب به ثانية». بين س بيرنانكي.[9]

انهيار السوق المالي

يُستشهد عادة بانهيار وول ستريت عام 1929 كبداية للكساد الكبير. بدأ في 24 أكتوبر 1929، وكان انهيار السوق المالي الأكثر تدميرًا في تاريخ الولايات المتحدة. يمكن أن يُعزى الجزء الأعظم من انهيار السوق المالي إلى الوفرة والتوقعات الخاطئة. في السنوات التي سبقت عام 1929، خلق أسعار السوق المالية المرتفعة مبالغ ضخمة من الثروة لمن استثمروا، ما عزز بدوره الاقتراض لشراء المزيد من الأسهم. إلا أنه في 24 أكتوبر (الخميس الأسود)، بدأت أسعار الأسهم بالهبوط وتسبّب تهافت المستثمرين على البيع بهبوطٍ حاد للأسعار. في 29 أكتوبر (الثلاثاء الأسود) هبطت أسعار الأسهم بقيمة 14 مليار دولار في يوم واحد، وأكثر من 30 مليار دولار خلال أسبوع. كانت القيمة المتبخِّرة خلال ذلك الأسبوع أكبر بعشر مرات من الميزانية الفيدرالية بأكملها وأكبر من كل ما أنفقته الولايات المتحدة على الحرب العالمية الأولى. بحلول عام 1930، كانت قيمة الأسهم قد هبطت بنسبة 90%.[10][11]

ونظرًا لاستثمار العديد من المصارف مدخرات عملائها في السوق المالي، أُرغمت هذه المصارف على الإغلاق عند انهيار السوق المالي. بعد انهيار السوق المالي وإغلاق المصارف، كان الناس خائفين من خسارة المزيد من الأموال. ولخوفهم من تحديات اقتصادية إضافية، توقف الأفراد من جميع الطبقات عن الشراء والاستهلاك. خسر آلاف من المستثمرين الأفراد الذي ظنوا أنهم سيصبحون أثرياء بواسطة الاستثمار على الهامش كل ما يملكون. أثّر انهيار السوق المالي على نحو خطير على الاقتصاد الأمريكي.

فشل مصرفي

كان لإغلاق وإيقاف آلاف المصارف دورٌ كبير في الركود. فشلت المؤسسات المالية لعدة أسباب، من ضمنها إجراءات إقراض غير منظمةٍ والثقة في غطاء الذهب وثقة المستهلك في اقتصاد المستقبل، وتخلّف عن تسديد قروض زراعية ضخمة. مع هذه القضايا المركّبة صارع النظام المصرفي لمجاراة طلب الجماهير المتزايد على السحوبات النقدية. قلل هذا إجمالًا من العرض النقدي وأرغم المصارف على اللجوء إلى البيع القصير (عقارات) وتصفية القروض الموجودة. في سباقه لتصفية الأصول بدأ النظام المصرفي يفشل على نطاق واسع. في نوفمبر عام 1930 بدأت الأزمة المصرفية الكبرى الأولى مع إغلاق ما يزيد عن 800 مصرف لأبوابها بحلول يناير 1931. بحلول أكتوبر 1931 أوقِف ما يزيد عن 2100 مصرف ما كان أعلى معدل إيقاف في الاحتياطي الفدرالي لمقاطعة سان لويس، إذ أوقِف مصرفان من كل 5 مصارف. مر الاقتصاد ككل بانخفاض في المراكز المصرفية في جميع أنحاء البلاد إذ بلغ عدد المصارف المغلقة ما يزيد عن تسعة آلاف بحلول عام 1933.[12]

المراجع

  1. Gordon, John Steele. "10 Moments That Made American Business". American Heritage (February/March 2007). مؤرشف من الأصل في 20 أبريل 2008. اطلع عليه بتاريخ 18 مارس 2017. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  2. Chandler, Lester V. (1970). "America's Greatest Depression 1929-1941". مؤرشف من الأصل في 16 يناير 2020. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  3. Chandler (1970); Jensen (1989); Mitchell (1964)
  4. The Migrant Experience. Memory.loc.gov (1998-04-06). Retrieved on 2013-07-14. نسخة محفوظة 10 أكتوبر 2014 على موقع واي باك مشين.
  5. American Exodus The Dust Bowl Mi. Faculty.washington.edu. Retrieved on 2013-07-14. نسخة محفوظة 28 فبراير 2019 على موقع واي باك مشين.
  6. Bordo, Michael D.; Goldin, Claudia; White, Eugene N., المحررون (1998). The Defining Moment: The Great Depression and the American Economy in the Twentieth Century. ISBN 978-0-226-06589-2. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  7. Robert Fuller (2012), Phantom of Fear: The Banking Panic of 1933, pp. 241–42 fn. 45
  8. Milton Friedman; Anna Schwartz (2008). The Great Contraction, 1929–1933 (New Edition). Princeton University Press. ISBN 978-0691137940. مؤرشف من الأصل في 16 يناير 2020. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  9. Ben S. Bernanke (Nov. 8, 2002), FederalReserve.gov: "Remarks by Governor Ben S. Bernanke" Conference to Honor Milton Friedman, University of Chicago نسخة محفوظة 12 يناير 2020 على موقع واي باك مشين.
  10. "What caused the Wall Street Crash of 1929?". Economics Help (باللغة الإنجليزية). مؤرشف من الأصل في 19 أغسطس 2019. اطلع عليه بتاريخ 13 يونيو 2017. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  11. "The Economic Causes and Impacts of the Stock Market Crash of 1929 (Fall 2012) - Historpedia". sites.google.com. مؤرشف من الأصل في 19 سبتمبر 2016. اطلع عليه بتاريخ 13 يونيو 2017. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  12. "Banking Panics (1930–1933)." Encyclopedia of the Great Depression. Encyclopedia.com. 13 Jun. 2017<http://www.encyclopedia.com>.
    • بوابة الولايات المتحدة
    This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.