التنظيمات العثمانية

التنظيمات العثمانية كانت فترة إصلاح بدأت في 1839 وانتهت بفترة المشروطية الأولى في 1876.[1][2][3] فترة إصلاحات التنظيمات تميزت بمحاولات عدة لتحديث الدولة العثمانية، لتأمين وحدة ترابها ضد الحركات القومية والقوى المعادية. الإصلاحات شجعت العثمانية بين الجماعات العرقية المتباينة في الدولة، في محاولة لقطع شأفة الحركات الوطنية في الدولة العثمانية. حاولت الإصلاحات أن تدمج غير المسلمين وغير الأتراك في المجتمع العثماني بتحسين حرياتهم المدنية ومنحهم المساواة في أرجاء الدولة العثمانية فاستغلت الدول الأوروبية هذه الثغرة للدول في شؤون الدولة العثمانية.

من المعروف تاريخيًا ان الإعلان عن التنظيمات في الدولة العثمانية تزامن مع فترة الحكم المصري لسورية. ففي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 1839، دعا السلطان الجديد عبد المجيد الأوّل وجهاء القوم وأرباب الحكم إلى قصر الزهور (الكلخانة)، حيث قرئ البيان الذي عرف باسم "خط الكلخانة الشريف"، الذي صاغه مصطفى رشيد باشا (ناظر الخارجية(بمساعدة المستشارين الفرنسيين، لم يحظ الخط الشريف بالاهتمام اللائق من قبل جمهور السوريين حتى بعد عودة الحكم التركي المباشر لسورية اثر رحيل قوات إبراهيم باشا سنة 1841. والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى أن السلطان التركي المصلح رغم أنه كان قد اضطر لاعلان الخط الشريف تحت ضغط ظروف الأزمة الحادة التي عانتها الامبراطورية العثمانية، فضلا عن المبادئ الأساسية التي تضمنتها الفرامين اللاحقة لتنفيذ الإصلاحات، والتي ظلت حرفا ميتا بفعل الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، تلك المبادئ التي يمكن تلخيصها على الشكل الآتي:

  1. صيانة حياة الرعايا وشرفهم وممتلكاتهم بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. 2- ضمان طريقة صحيحة لتوزيع الضرائب وجبايتها. 3- تنظيم أمور الجندية مع تحديد أمدها. 4- اجراء المحاكمات علنا...ألخ.

ورغم أن هذه المبادئ ظلت حبرا على ورق، فان بعضها وجد طريقه إلى سورية في وقت متأخرى، والكلام يدور هنا عن التقسيمات الادارية الجديدة التي طالت سورية عام 1841، إذ دمجت باشويتا صيدا وطرابلس في ايالة واحدة نقل مركزها إلى بيروت، واخضع سنجق القدس الخاص لها، الأمر الذي فسح المجال امام تصاعد النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي شهدت بيروت بوادره ابان الحكم المصري. ذلك التصاعد الذي امتاز للاسف بوتائر منخفضة قياسا إلى فترات سابقة، وذلك نتيجة للتقلبات الخطيرة التي اعترضت البلاد اللبنانية، ولاسيما إلغاء الامارة اللبنانية سنة 1842 والصدامات الدامية بين الطوئف عبر الاربعينيات.

وكما جاء الخط الشريف سنة 1839 عاقبة لظروف الحرب التركية المصرية، صدر الخط الهمايوني قبيل عقد الصلح تحت ضغط الدول الاوربية في 19 شباط (فبراير) 1856، فكان بمثابة التزام دولي وفقا للمادة التاسعة من معاهدة صلح باريس المعقود في 30 آذار (مارس) 1856، لم يكن بمقدور السلطان التركي إلغاءه ولا تغييره الا بموافقة الدول الكبرى. وبمعنى آخر: "ان كان البيان الأول قد حرم الدبلوماسية الأجنبية والروسية خاصة، من آية ذريعة للتدخل في شؤون الامبراطورية العثمانية، فان البيان الثاني كن قبل كل شئ وسيلة لمثل هذا التدخل". على حد تعبير المستشرق لوتسكي.

الآثار

الإصلاحات العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد.

الامتياز الأخير عاد بالفوائد الجمة على فرنسا وانكلترا، إذ توطدت علاقات وثيقة بين الطوائف المسيحية السورية وعاصمتي الدولتين أو مع بعثتيهما الدبلوماسيتين في المشرق، كما أن الطوائف الكاثوليكية (المارونية وأمثالها) والبروتستانتية اتخذت موقف مؤيدا ومتعاطفا مع الخط الهمايوني، الذي ركز خلافا للخط الشريف الأول – على المساواة بين الأديان والمذاهب المختلفة، ووسع حقوق وامتيازات رعيا ووكلاء الدول الراسمالية الذين كانوا في غالبيتهم من التجار الكومبرادوريين المسيحيين.

ولذا، أثار خط همايون 1856 مخاوف فئة التجار المرابين من الطوائف المسيحية، ولاسيما داخل أوساط المثقفين الذين يعبرون عن أيديولوجية هذه الفئة الاجتماعية، ومن المعقول جدا أن الأوهام التي تولدت بعد الخط الهمايوني والتي ترددت من على منابر وندوات الجمعية بصفة أمان وآمال، بل وحتى على شكل مطالب وتوقعات، أثارت أيضا حفيظة الوالي التركي.

وللعلم نقول ان الخط الهمايوني أثار تبدلا ظاهرا في المناخ الفكري لدى رجالات النهضة باتجاه تحريك الأمرجة نحو التضامن مع الواقع العثماني وغيرها من الأمور التي سنفصلها خلال حديثنا عن الجامعة العثمانية. لذا نكتفي الآن بالتلميح إلى أن ذلك التبدل الفكري كان سببا رئيسيا في اثارة النعرات والانقسامات، فضلا عن تقويض أركان الجمعية بأسرها. ومن المحتمل أن الانقسام لم يطل فقط أوساط المثقفين الوطنيين، بل انتقلت عدواه إلى العلاقة القائمة بينهم وبين المرسلين الأجانب. وقد أكد كمال الصليبي المتضلع في المصادر والمراجع البروتستانتية، ولاسيما الإنكليزية منها، أن البروتستنانتيين الوطنيين "تمردوا على المبعوثين المتكبرين والمتغطرسين" في أواخر الخمسينيات"، وبأن "الخلاف ذر قرنه بين الطرفين فاتسمت علاقاتهم بالتوتر الشديد".

ويكن استقراء عدم التجانس في المواقف من سياق المعلومات التي وصلتنا من الجمعية العلمية الخطابية التي تأسست سنة 1859 بترخيص رسمي من الدولة.

المعلومة الأولى تخص رئاسة الجمعية، وهي تفيدنا أن القنصليين الأمريكي والبريطاني توليا الاشراف على إدارة الجمعية رسميا، بيد أن ذلك اتخذ طابعا تشريفيا وشكليا. وان الرؤساء الفعليين لهذه الجمعية هم ثلاثة من أعلام الفكر والثقافة في المجتمع البيروتي آنذاك، بطرس البستاني البروتستانتي، وميخائيل مدور الماروني الكاثوليكي، وخليل الخوري الأرثوذكسي، وهم من الناس المقربين تبعا إلى القنصليات الأمريكية- الإنكليزية، والفرنسية والروسية.

المعلومة الثانية تطلعنا على أن الدكتور فانديك كان الوحيد بين نخبة المرسلين، الذي وطد علاقات وثيقة مع الأعضاء الوطنيين، أي انه كان إنسانا علمانيا أكثر ميلا نحو التشرق في أوساط المبعوثين الأوربيين. وهم رغم اتصاله الدائم والمستمر بالوسط التبشيري، أصبح خلال عقد من السنين من أبرز المنورين اللبنانيين الاصليي،. وكمصدر لقولنا نذكر بأنه ألقى في أول اجتماع للجمعية الخطابية، محاضرة عنوانها "التوفيق بين العلم والدين" باللغة الإنكليزية رغم تمكنه حينئذ من ناصية اللغة العربية، ومن هنا يصح الافتراض التالي، وهو أن فانديك لم يكن ينوي توجيه كلامه إلى سامعيه من العرب الوطنيين الذين دأب المبشرون الأجانب على اقناعهم بضرورة استيعاب المعارف العلمية التي لا تشكل خطرا على معتقداتهم الدينية، متخذين من ذلك قناعا للتستر على مآربهم الخبيثة، بل توجه في الواقع إلى أصدقائه من المبشرين الأنكليكانيين وإلى ملهميهم وأسيادهم الأجانب. كل ما في الأمر أن المرسلين الأجانب في مطلع الخمسينيات وضعوا نصب أعينهم مهمة الدعوة الحارة والصداقة للنشاط العلمي – الثقافي، ولكنهم تحولوا في أواخر الخمسينيات إلى مواقع التبشير الديني والروحي البحت. الأمر الذي يقودنا إلى الاستنتاج المنطقي التالي، ان المراوحة في اطر تكتيكهم السابق كان يعني الانفصام إلى هذا الحد أو ذاك بين استراتيجية المبشرين من جهة، وبين استراتيجية المنورين العرب في بيروت المتطلعة إلى التطور والتقدم.

نؤكد في هذا المقام أن المحاضرة التي ألقاها بطرس البستاني في 15 شباط (فبراير) 1859 بعنوان "خطاب في آداب العرب" تمثل النموذج الأمثل للنزعات الجديدة التقدمية السائدة في أوساط المفكرين النهضويين العب. ذلك الخطاب الذي نشرته البعثة الأمريكية في بيروت في كتيب خاص، أثار ضجة كبيرة ولاقى صدى واسعا بين الناس.

لقد تكلم البستاني بايجاز عن الحضارة العربية قبل الإسلام، وركز جل اهتمامه على الحضارة وتطور العلوم والمعارف في العصر العباسي مشيرا إلى واقع تكون ثقافة عالمية المستوى. وابان حديثه عن اللغة العربية خلص إلى فكرة مفادها أن الحركة الأدبية المعاصرة تفرض مهام عاجلة على صعيد اجراء تغيير ملموس في بنية اللغة العربية وجوهرها. ففي كلامه عن ثراء اللغة العربية بالمترادفات والمتجانسات قال البستاني: "ان اللغة التي تعبر عن مفهوم واحد بكلمات عديدة، ولا تملك القدرة على التعبير بكلمة واحدة ووحيدة عن مفاهيم عديدة، لا يجب من حيث الجوهر اعتبارها لغة غنية، بل فقيرة". وتطرق في خطبته إلى قضايا لغوية هامة، وخطيرة، كتطوير علم الصرف والنحو، وتقريب اللهجة العامية من اللغة الفصحى، فقال: "إذا لم تقترب الفصحى من اللغة الدارجة، فان هذا سيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، إذ تصبح هذه اللغة ميتة بالنسبة للإنسان العربي المعاصر، كما حدث للغة اللاتينية عند الشعوب الرومانية، ولغة الغرابار (الأرمني القديم) عند الأرمن المعاصرين، أو لليونانية القديمة لدى أهل اليونان المعاصر". ثم يستطرد قوله: "وهذه لعمري خسارة فادحة لكل العرب. لقد ولت أمجاد العرب في العصور الوسطى يوم كانت حضارتهم أرقى بكثير من الأوربية، ولكن العرب متأخرون اليوم جدا في ميادين العلوم والآداب والتقنية، حقا ان المدارس التبشيرية تنشر العلم والنورن ولكن الجهل لا يزال مخيما في بلادنا". وهنا ارتأى المحاضر اثارة الحمية والحماسة في نفوس سامعيه من العرب فقال: "لا تيأس أيها الأخ العربي المعاصر ولا تضمر الحقد لمن ينطق بالحقيقة بل أود ايقاظك من سباتك العميق، واستنهاضك للاستفادة من العلوم المتطورة، لعلمي علم اليقين أنك أهل للقيام بهذه المهمة، وأعلم أن المستقبل المشرق الوضاء في انتظارك. فالمطابع والمدارس والمكتبات خير ضمانة لوصول أبناء الوطن إلى بر الأمان. ليس بعيدا ذلك اليوم الذي تتحول فيه الأماكن المقدسة والأديرى إلى مدارس، كيف لا والجميع يشعرون من يوم لآخر بالقوة العظيمة الكامنة في العلم، ويدركون حق الإدراك ان المعرفة جوهر الحياة". وفي ختام كلمته أشاد البستاني بفضائل السلطان عبد المجيد وشمائله والذي أصدر "الخط الهمياوني" و"بأفكاره الإنسانية التنويرية" و"بالحريات التي أغدقها على أهل الذمة غير المسلمين، فقال: "فنمو التجارة بين العرب واتساع علاقاتهم.. " بالشعوب المتمدنة وازدياد عدد المطابع والمدارس، والتنظيم الجيد للمصالح الحكومية، والتقدم بين الموظفين في مجال المعارف المختلفة، وظهور الحركة الأدبية الجديدة، والقاء المحاضرات والأبحاث حول المواضيع الأدبية والدينية والسياسية والاجتماعية، والاتجاه نحو تعليم المرأة.. كل هذا يقوي أملنا، في أنه في هذا البلد، حيث يضئ في منتصف القرن التاسع عشر هلال المعارف، سوف ينزغ البدر الكامل".

هذا التوجه العروبي الجديد تجسدت ردود فعله السريعة في ظهور الجمعيات والأندية الأدبية. ولعل أشهرها "العمدة الأدبية لاشهار الكتب العربية" أي لاحياء التراث العربي القديم، ضمت هذه الجمعية ذات الأهداف التنويرية 14 عضوا مؤسسا، أغلبهم من المثقفين النصارى وأقلية من العرب المسلمين. وهذه أسماء مشاهيرهم: ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، إسكندر أبكاريوس، خليل الخوري، ميخائيل مدور، نقولا نقاش، حسين بيهم، إبراهيم الأحدب، وغيرهم. فالنشاط الذي ابتداه أباكريوس قبل عقد من السنين باتجاه بعث التراث العربي من رقاده الطويل افسح المجال واسعا أمام قيام هذه الجمعية واضطلاعها بفعاليات وأنشطة حثيثة لتعريف الأوساط العربية بالآثار الجليلة من تاريخ العرب وآدابهم في القرون الوسطى. وليست مصادفة محضة أن الجمعية سعت لنشر المؤلفات والتصانيف التي وضعت في الوسط السوري العربي. فديوان الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي تغنى بأمجاد العرب وفضائلهم كان باكورة مطبوعات الجمعية، فقد ضبطه وعلق حواشيه وناظر طبعه المعلم بطرس البستاني.

مختصر القلو: تكونت أيديولوجية النهضة الثقافية العربية التي أخذت تتميز بووضح الرؤية، وتتسم بصبغة سياسية واضحة المعالم. هذا التوجه السياسي القومي يعبر عن جنينية الفكر القومي السوري، الذي كان قابلا للتعايش والترعرع في أوساط المنورين العرب – السوريين (نقصد اللبنانيين تحديدا) الموجودين في بيروت، مركز العلم والنور.

لقد شغل بال المستعربين سؤال طرح نفسه باستمرار: ما هو سبب ظهور النهضة وحركة التنوير العربي وفكرة القومية العربية في وسط الرواد السوريين المسيحيين (أغلبية لبنانية) وليس في أوساط النهضة السوريين المسلمين أو في الأقطار العربية الشرق أوسطية الأخرى؟

ان محاولة البحث عن الإجابة في حدود سورية الطبيعية – التاريخية تفرض علينا التذكير بالوضع الاجتماعي – الاقتصادي والإداري – السياسي الذي امتاز به لبنان عصرئذ، فضلا عن الأحوال الثقافية الخاصة التي تمتع بها قياسا إلى الأوضاع السورية ككل.

انظر أيضًا

مراجع

  1. NTV Tarihنسخة محفوظة 2013-02-12 على موقع واي باك مشين. history magazine, issue of July 2011. '"Sultan Abdülmecid: İlklerin Padişahı", pages 46–50. (Turkish)
  2. Yapp, Malcolm (9 January 2014). The Making of the Modern Near East 1792-1923. روتليدج. صفحة 119. ISBN 1317871073. مؤرشف من الأصل في 11 مايو 2020. اطلع عليه بتاريخ 06 مايو 2017. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
  3. Selçuk Akşin Somel (2010). The A to Z of the Ottoman Empire. Rowman & Littlefield. صفحة 188. ISBN 978-0-8108-7579-1. مؤرشف من الأصل في 1 سبتمبر 2016. اطلع عليه بتاريخ 09 يونيو 2013. الوسيط |CitationClass= تم تجاهله (مساعدة)
    • بوابة القرن 19
    • بوابة الدولة العثمانية
    • بوابة تركيا
    This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.