محمل الحج الشامي
يذكر أن أول قافلة للحج في الإسلام كانت في السنة التاسعة للهجرة سنة 631 م وقد ضمت نحو 300 حاج وهي تحت إمرة أبي بكر الصديق ثم تعاقبت السنون واستقر تقليد خروج قوافل الحج سنويا من المدينة المنورة إلى مكة فعرفات فمزدلفة فمنى ثم تعود أدراجها إلى المدينة بعد تمام الحج. ولم تمض سنوات على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذ الإسلام ينتشر خارج حدود شبه جزيرة العرب فامتد إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وشمالي إفريقيا وغير ذلك من الأقاليم التي وصلتها الفتوحات العربية وأصبح لزاما على شعوب تلك الديار التي دخل معظمها في حظيرة الإسلام تأدية ما عليهم من واجب نحو الركن الخامس في الإسلام ونعني بذلك الحج.
محمل الحج الشامي
فنشأت مراكز جديدة إلى جانب المدينة المنورة ومن هذه المراكز دمشق والكوفة وبغداد والفسطاط ثم القاهرة وتونس وفاس ثم تعز وصنعاء لتجمّع الحجيج وانطلاق قوافلهم التي تشكلت سنويا في تلك المراكز في طريقها لأداء فريضة الحج. وقد لعبت قافلة الحج الشامي دورا هاما في تاريخ دمشق بخاصة وبلاد الشام عامة. وكانت لها أهمية كبيرة لدى الدولة العثمانية. فالسلطان العثماني اتخذ لنفسه لقب حامي الحرمين الشريفين الأمر الذي اقتضى تأمين سلامة الحجيج إلى هذين الحرمين بمكة والمنورة وزاد في أهمية هذه القافلة آنذاك كونها واحدة من قافلتين رئيسيتين سمحت بهما وتبنتهما ونظمتهما الدولة العثمانية في العالم الإسلامي أما القافلة الثانية فهي قافلة الحج المصري.
وقد شملت القافلة الشامية أعداداً كبيرة من الحجاج كانوا يفدون إلى دمشق في موسم الحج من المناطق الشمالية والشرقية من داخل الدولة العثمانية وخارجها. وعرف أولئك الحجاج بحسب المناطق التي كانوا يفدون منها وكان منهم جماعات الروم والحلبيين والعجم فضلا عن حجاج دمشق وقد التحق بكل طائفة من هؤلاء جماعات أخرى من خارج الحدود. وكان أكثر هذه الجماعات عددا الروم لأن كلمة (روم) أطلقت على حجيج مناطق ما وراء طوروس والفرات. ولم يمر وفد الحج الرومي في الغالب بمدينة حلب فهو لم يندمج مع الحج الحلبي. أما الحج (وفود الحجيج) العجمي فكان يأتي إلى دمشق إما عبر حلب أو مباشرة عبر بغداد والطريق الصحراوي برفقة قافلة التجارة للإفادة من الحماية المتوافرة للحجيج.
وكان من الحجاج من يصل إلى دمشق قبل انطلاق القافلة بأربعة أشهر أو خمسة أشهر ولكن الأغلبية منهم كانت تصل في شهر رمضان ومنهم من كان ينزل في خان الحرمين القريب من باب البريد بدمشق أو بالقرب من جامع الورد في حي سوق ساروجة. أما الحجاج الأعاجم فكان من عادتهم النزول في حي الخراب والسويقة قريبا من مقابر آل البيت. وكان من الحجاج الوافدين إلى دمشق من ينزل منهم في زوايا تحمل اسمهم مثل زاوية (المغاربة) وزاوية (الهنود) بمحلة السويقة وزاوية (السنود) وزاوية (الموصليين) بمحلة ميدان الحصى بحي الميدان.
ومن هؤلاء الوافدين إلى دمشق للانضمام إلى قافلة الحج الذاهبة إلى مكة المكرمة: النقشبندية وقد وفدوا من ناحية (بلخ) وكانوا يفدون جماعات ربما زاد عددها عن الأربعمئة في بعض المرات وكان بعضهم يتخلف عن العودة إلى بلاده بعد أداء فريضة الحج ويستقرون في دمشق. أما عدد حجاج القافلة فكان يتفاوت من سنة إلى سنة أخرى وكان متوسط عدد حجاج القافلة يتراوح في ذلك الحين بين 20 ـ 40 ألف حاج وكان هذا العدد يرتفع أو يهبط وفقا للظروف الأمنية.
كما أن عدد حجاج القافلة قد يرتفع في الأوقات التي يعقبها كارثة أو حرب ما مما يقتضي التوجه إلى الحج لشكر الله على انتهائها وكان والي دمشق يقوم بمهمة (أمير الحج) مكلفا من السلطان العثماني ذلك للسهر على أمن القافلة وقيادتها بنفسه مع قوة عسكرية ومرتزقة لحمايتها من تعديات البدو وهذه كانت من أخطر المسؤوليات التي تسند إلى والي دمشق لأنه بمقدار ما ينجح في هذه المهمة بمقدار ما يستقر في منصب ولاية دمشق وقد قدرت الدولة خطورة هذه المسؤولية فكانت تتخيّر لباشاوية (ولاية) دمشق كبار رجالاتها حتى أنها مدّت في ولاية أسعد باشا العظم أربعة عشر عاما لنجاحه بالقيام في مهمة إمارة الحج على خير وجه خلافا لما جرت عليه سياستها في الإكثار من تغيير الولاة ذلك أن قافلة الحج خلال فترة إمارة أسعد باشا لم تتعرض لأي عدوان.
ثم يذهب الباحث منير كيال إلى تعريف (المحمل) فهو لغة: شقتان على البعير يحمل فيهما العديلان ومنها الهودج التي هي مراكب للنساء على الجمال وهو يختلف عن المحفة من حيث إن المحفة لا سقف لها في حين أن الهودج له سقف (مقبب). وبالنسبة لقافلة الحج فإن اصطلاح المحمل يعني؛ هيكلا خشبيا يعلوه هرم أو قبة مزين بالحلي والنفائس يحمله جمل قوي مزين هو الآخر بمختلف أنواع الحرير ومغطى بفاخر القماش. وكان بداخل المحمل مصحف مغطى بالحرير.
مع ذلك فان (المحمل) هذا لم يكن يشكل جزءا من طقوس الحج ولا من متطلبات قافلة أو ركب الحج وكذلك لا يستفاد منه للركوب بل ولا ينقل فيه شيء من المتاع أو الأغراض المتعلقة بالقافلة أو بأمير الحج بل كان كل ما (يحمل) فيه هو نسختان من القرآن الكريم. فهو والحال هذه لا يعدو عن كونه رمزا يمثل السلطة التي يعود إليها ركب الحج المصاحب للمحمل وترجع بعض المصادر تاريخ المحمل إلى حوالي سنة (654) هجرية. فقد رحلت في هذه السنة ( شجرة الدر) زوج السلطان الأيوبي الصالح أيوب إلى مكة لأداء فريضة الحج فركبت هودجا واحتفل بسفرها احتفالا شائقا وأصبح ذلك سنّة متبعة سنويا ومن ثم حذت الأقاليم العربية حذو مصر في ذلك.
فكانت تبعث محملا مشابها إلى مكة المكرمة في موسم الحج حتى توقف ذلك واكتفي بإرسال الكسوة إلى الكعبة وقد اهتم الفاطميون بالمحمل وبلغت نفقاته أكثر من مئتي ألف دينار. واستمر في عصر المماليك وبلغ من إكبار المماليك للمحمل أنهم أمروا جميع حكام البلاد التي كان يمر بها ركب الحج في طريقه أن يقبّلوا (خفّ) جمل المحمل عند استقباله واستمر أمراء مكة يقّبلونه حتى أعفاهم من ذلك السلطان (جقمق) سنة 843 هجرية.
وإذا كان الملك العادل الأيوبي عديم الالتفات إلى ما يرغب به الملوك من الأبّهة وكان ينهى نوابه عن إمرة الحج الشامي من مزاحمة الملوك في اطلاع الأعلام إلى رأس جبل عرفات وترك علمه إلى جانب محمله تحت الجبل. فإن الملك الظاهر بيبرس كان على غير ذلك وبخاصة بعد أن لحظ هودج الأميرات في قافلة الحج؛ الأمر الذي أوحى إليه أن يكون محمله على نحو من الأبّهة، وإلى بيبرس يعود تقليد دورة المحمل حول القاهرة وهذا ما كان عليه الوضع في دمشق في دورة المحمل والصلجق حول سور دمشق الجنوبي والشرقي والشمالي.
لقد أعطى المحمل أهمية تؤكد قوة وسطوة من يحرصون على إرساله إلى مكة بل وصار يفيض عليهم شرفا عظيما يمدهم بالحكم فترات أطول. وانطلاقا من ذلك الاهتمام والحرص فقد افتقد خروج المحمل أيام المماليك على القاهرة ودمشق عاصمتي ملكهم كأصحاب سيادة على مكة والمدينة.
ولما كان حكام العراق لا يلوذون بالمماليك فقد رغبوا بدورهم إضفاء صيغة الحماية على الحرمين الشريفين فأرسلوا محملا سنة 721 هجرية واستمروا على ذلك حتى استطاعت دولة المماليك من منافستهم سنة 877 هجرية كما عمد أئمة اليمن بدورهم إلى إرسال محمل مماثل لكن أشراف مكة الذين كانوا يدينون آنذاك بالولاء للمماليك بالقاهرة منعوا المحمل اليمني من الدخول إلى مكة اعتبارا من سنة 782 هجرية.
وعندما سيطر العثمانيون على مكة رفعوا ذلك الحظر وسمحوا للمحمل اليمني بالقدوم اعتبارا من سنة 964 هجرية واستمر محمل اليمن مع المحمل الشامي والمحمل المصري الذي ظل يرسله المماليك في ظل الحكم العثماني حتى استقلال اليمن عن الدولة العثمانية بزعامة الأئمة الزيديين.
وخلافا لما جرت عله عادة العثمانيين من تغيير لشعارات المماليك وعاداتهم وسلوكهم فقد أبقوا محمل الحج وجهّز السلطان سليم محملين كبيرين من دمشق والقاهرة بعد ضم بلاد الشام ومصر إلى الدولة العثمانية واتبع ذلك بمحمل ثالث خليفي باسم الخليفة العثماني السلطان ليؤكد سيطرة العثمانيين وحمايتهم للحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة وانتزاع الأمر من المماليك. وكان المحمل العثماني مكسوا بقماش مخملي أخضر كتبت عليه آيات من القرآن الكريم ويحمله جمل عليه حلة مزركشة بأنواع الأقمشة والجلود وقد خيطت عليه الأصداف الصغيرة والمرايا.
ولقد استمر خروج المحمل الشامي مع بعض الانقطاع حتى قيام الحرب العالمية الأولى في حين منع المحمل المصري من دخول مكة سنة 1345 هجرية (1936 م) لما كان يشوبه من مخالفات شرعية وما يرافقه من طبل وزمر وذلك بعد أن سيطر آل سعود على الحرمين الشريفين وقد سبق للسعوديين أن منعوا هذا المحمل سنة 1223 هجرية مما أدى إلى انقطاع الركب الشامي والمصري عن الحج متعللين بمنع السعوديين الناس من الحج.
لكن الحال ليست كذلك فواقع الأمر أن السعوديين لم يمنعوا أحدا أن يأتي إلى الحج على الطريقة المشروعة إنما كان المنع للبدع التي ترافق قدوم الركب من طبل وزمر وحركات أو ممارسات تحت ستار أو دعوى التدين مما لا يجيزه الشرع ومما حدا بالإمام سعود الأول بن عبد العزيز؛ أن يحرق المحمل المصري سنة 1221 هجرية بعد أن أنذر أميره بألا يسترجع معه المحمل. كذلك فقد بعث إلى أمير المحمل الشامي ينهاه على القدوم إلى مكة إلا على الشرط الذي شرط عليه في العام الفائت وذلك بأن يأتي بالحجيج إلى بيت الله الحرام غير متلبسين بالبدع. فرجع الأمير الشامي ولم يحج.
المصدر
منير كيال-محمل الحج الشامي- 06 أغسطس 2007
- (منير كيال كاتب وباحث ومؤرخ للتقاليد الشامية صدر له: كركوز وعيواظ في نصوص موثقة والحمّامات الشامية وفنون وصناعات دمشقية رمضان وتقاليده الشعبية يا شام في التراث الشعبي وحكايات دمشقية والصناعات السورية التقليدية ودرر الكلام في أمثال أهل الشام والمرأة في المثل الشعبي الشامي وغيرها من الكتب التي تبحث في الجغرافيا والبترول.)
مراجع
- بوابة الإسلام